من بين أكثر الموضوعات إثارة للدهشة، أن يقدم الإنسان على "نحر" نفسه! فنحن نندهش من تلك القدرة الغريبة التي تتملك الإنسان، فتولد لديه الإصرار على أن ينهي حياته بقتلها! والأغرب ما في هذه القدرة لحظة تنفيذ هذا الإصرار.
إنها - في اجتهادي - أفظع مأساة تراجيديَّة تمّثل فعلاً على مسرح الحياة البشريَّة، يكون فيها "البطل" هو القاتل والقتيل معاً، ونتساءل: لماذا يقتل الإنسان نفسه؟ هل يكفي أنْ يفقدَ الإنسان الأمل في الحياة ليغادر هذه الحياة؟ وهل إذا حلّت به آلام "فرتر" أو "سيزيف" أو "روميو" أو "جوليت"، فإنَّه لا خلاص له منها إلا بقتل النفس.
يروى عن الأصمعي، والعهدة على من روى، قال: بينما كنت أسير في بادية الحجاز إذ مررت بحجر كتب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشاق بالله خبّروا
إذا حلّ عشق بالفتى كيف يصنع؟
فكتب الأصمعي تحت ذلك البيت:
يداري هواه ثم يكتم سّره
ويخشع في كل الأمور ويخضع
ثم عاد في اليوم التالي إلى المكان نفسه فوجد تحت البيت بيتاً جديداً:
وكيف يداري الهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتب الأصمعي تحت ذلك البيت:
إذا لم يجد صبراً لكتمان سّره
فليس له شيء سوى الموت ينفع
قال الأصمعي، فعدت في اليوم
التالي إلى الصخرة فوجدت شاباً
ملقى تحت ذلك الحجر، وقد فارق الحياة، وقد كتب في رقعة من الجلد هذين
البيتين:
سمعنا اطعنا ثم متنا فبلّغوا
سلامي إلى من كان للوصل يمنع!
هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرع!
وسواء أكانت هذه الحكاية "حقيقيَّة" أم إسقاطاً، فلماذا تنغلقُ كلّ نوافذ الحب للحياة أمام المنتحر، ولا تبقي أمامه إلا نافذة الموت؟
ولماذا ينتحر الإنسان في أوقاتٍ غير متوقعة، فقد انتحر شابٌ فرنسيٌ قبل زفافه بست ساعات، وانتحر شخصٌ على غير ما توقعه المحيطون به. فلقد أجرى عمليات معقدة بسبب خرّاج في الدماغ، ولكنه لم يمت بل تماثل للشفاء وأخرج من المستشفى، وبعد ثلاثة أسابيع، وهو يتمتع بكامل صحته انتحر!
وحتى لو حسبنا الحياة على ما يرى ابن الرومي يوم قال:
فلا تحسب الدنيا إذا ما سكنتها
قراراً فما دنياك غير طريق
أو ليس من الأجدى أنْ نسيرَ في هذا الطريق على مهل، لا أنْ ننطلقَ إلى نهايته مثل رصاصة؟!
سئل الإمام علي ابن أبي طالب عن ماهيَّة الشجاعة، فطلب من سائله أنْ يعضَّ على إصبعه، وهو بدوره يعض على إصبع سائله، فما لبث أنْ صرخ الآخر من شدة الألم.
عندئذ خاطبه الإمام علي: "لو لم
تصرخ لصرخت بعدك وهذه هي الشجاعة"، فلماذا لا يفكر الإنسان "بصرخة" أخرى أشجع، إذا
ما عددنا الانتحار "شجاعة" على ما يرى بعضهم؟.