أحمد حسن
بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تتبدى معالم تحول استراتيجي في السياسة الخارجيَّة الأميركيَّة؛ إذ يعود ترامب بروحٍ تعكسُ ما أسماه والتر رسل ميد بـ»السياسة الجاكسونيَّة الجديدة»، سياسة تتأسس على الأولويات القوميَّة وتستعيد مفاهيم «واقعيَّة القوة». بعيداً عن ملامح العولمة الليبراليَّة التي طغت على السياسات الأميركيَّة منذ الحرب الباردة، يتجه ترامب لاستعادة مسارٍ يرتكزُ إلى المصلحة القوميَّة العليا، ممَّا يحقق - بنظر بعض المحللين - خروجاً من عباءة الالتزامات الإيديولوجيَّة التي لم تعد تخدم المصالح الأميركيَّة الراهنة. وفي هذا السياق، يطرح المفكر الإيراني حسين موسويان أنَّ هذه «الأوهام الليبراليَّة» لم تعد تتماشى مع توجهات الأمة الأميركيَّة.
يظهرُ ترامب، إلى جانب أسرته، كرمزٍ يعبّرُ عن قوة الأسرة والمجتمع، متجاوزاً مفهوم الفردانيَّة التي تقومُ عليها فلسفات الليبراليَّة الحديثة. ويعزز بذلك طرح بات بوكانن، الذي يرى الأسرة كوحدة أساسيَّة في تشكيل الأمة وتقويتها. يسعى ترامب وفريقه إلى بناء نظامٍ عالميٍ جديدٍ على أسسٍ قوميَّة واضحة، مركزها المصالح المشتركة بدلاً من التحالفات التقليديَّة التي طالما ارتبطت بمفاهيم مثل «المسؤوليَّة الإنسانيَّة العالميَّة».
الأولويات الجيوسياسيَّة:
توازنٌ جديدٌ بين الصين وأوروبا
يتجلى هذا التحول الاستراتيجي أيضاً في التوجه الأميركي نحو كبح التمدد الصيني وتعزيز الحضور في منطقة المحيط الهادئ وأوروبا، بدلاً من الانغماس في قضايا الشرق الأوسط. ويرى المحلل الجيوسياسي جورج فريدمان أنَّ هذه العودة إلى التركيز على قوى الصراع الكبرى تذكّر بالاستراتيجيات التقليديَّة لأميركا، التي سعت دوماً إلى تأكيد التفوق الأميركي أمام القوى الكبرى المنافسة. ويوافقه دومينيك مويسي الرأي، إذ يرى أنَّ أميركا ستدفع أوروبا إلى تعزيز دفاعاتها الذاتيَّة، ما يتناغم مع دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتعزيز «السيادة الاستراتيجيَّة» الأوروبيَّة.
في ضوء هذه التوجهات، قد تسعى إدارة ترامب لتقليص دورها المباشر في أوكرانيا، وإفساح المجال لروسيا لتعزيز نفوذها هناك، بما قد يشكّل «إعادة تموضع» للهيمنة الأميركيَّة في أوروبا الشرقيَّة، وفق ما يطرحه الباحث الروسي ديمتري ترينين. ومن المتوقع أنْ يضعَ هذا أوروبا في مواجهة تحدياتٍ جديدة على صعيد الحفاظ على استقرارها الأمني والسياسي.
إيران والعراق:
موازين دقيقة وحسابات معقدة
وفي ما يتعلق بإيران، قد يميل ترامب إلى اعتماد نهجٍ يتسمُ بالحذر وتجنب الانخراط المباشر، عبر الاكتفاء بفرض خطوطٍ حمراء وتفعيل العقوبات الاقتصاديَّة للضغط، بعيداً عن التدخل العسكري المباشر. ويأتي هذا التوجه كجزءٍ من مسارٍ أوسع يسعى إلى إنهاء ما وصفه البعض بـ»الحروب الأبديَّة» التي أنهكت الاقتصاد الأميركي واستنزفت طاقاته. يبرز هذا الموقف كنموذجٍ لما يمكن أنْ نسميه «الفكر الواقعي» في الجغرافيا السياسيَّة، حيث توضع الحدود بوضوح، وتُحدد الأهداف من دون الانغماس في التزامات مكلفة.
أما العراق، فيظلّ ساحة صراعٍ حساسة، ويعتمده ترامب كأرضيَّة للتوازن الاستراتيجي بين مصالح الولايات المتحدة وإيران. وقد وصفه ستيفن والت بـ»الجُرح العميق» في الجسد الاستراتيجي الأميركي؛ إذ يرى أنَّ أي تدخلٍ غير محسوبٍ في العراق قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها. ويشير والتر إلى أنَّ إدارة ترامب قد تتبعُ سياسة تهدف لتحقيق توازنٍ دقيقٍ في العراق، من خلال تقليص التدخلات المباشرة، وتفعيل قنواتٍ للتعاون غير المباشر، لتفادي صدامات قد تخلق حالة من الفوضى في منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يرى هنري كيسنجر أنَّ العراق يمثل «حالة فريدة» تستطيع الولايات المتحدة من خلالها كبح النفوذ الإيراني، إذا ما أُحسِنَ توجيه السياسة بما يضمن استقرار المنطقة، محذراً من أنَّ تصاعد التنافس غير المتحكم فيه قد يؤدي إلى فراغاتٍ أمنيَّة تهدد المصالح الأميركيَّة.
العراق كمحور استراتيجي بين القوى الكبرى
ويظلُّ العراق نقطة مركزيَّة في مسار التحولات الإقليميَّة والدوليَّة، ما يفرض على صانعي القرار العراقيين أنْ يدركوا أهميَّة الموقع الجيوسياسي الذي تتمتع به بلادهم، ويتبنوا سياسات تضع مصلحتهم الذاتيَّة في صلب أولوياتهم، وتجعل من العراق وسيطاً بين طهران وواشنطن. وبهذا السياق، يقترح دومينيك مويسي تحويل العراق إلى «منصة للتفاوض الإقليمي»، لا سيما مع سعي الولايات المتحدة إلى تقليل انخراطها المباشر في المنطقة.
تأتي هذه المقاربة كفرصةٍ للعراق لتعزيز استقلاليته الاستراتيجيَّة، وهو ما يمكن أنْ يتحققَ عبر نموذج «الحياد الإيجابي» الذي يطرحه الباحث الإيراني محمد مراندي، نموذجٌ يسعى لجعل العراق مركزاً للتعاون بين القوى الكبرى بدلاً من ميدانٍ للصراعات. ويرى المفكر الأميركي نوح فيلدمان أنَّ العراق، إذا أجاد إدارة علاقاته الخارجيَّة بمهارة، يمكن أنْ يتحول إلى «جسر توازن» بين مصالح متعددة، ما يُعزز من استقراره الداخلي، ويسهم في تهيئة مناخٍ إقليمي يسوده التوازن.
إنَّ المرحلة تتطلبُ من العراق السعي لتعزيز مكانته كوسيطٍ محايدٍ، من خلال اعتماد سياسة «الدبلوماسيَّة المتعددة الأقطاب»، كما يطرحها الجيوسياسي الروسي ديمتري ترينين. ويبدو أنَّ هذا التوجه، إذا ما نُفِّذ بحنكة، قد يسهم في استقرار العراق داخلياً، بينما يمكنه من الاستمرار بلعب دورٍ استراتيجي في منطقة شديدة التوتر.
إنَّ عودة ترامب للبيت الأبيض تأتي كتجسيدٍ لتحولٍ استراتيجي متعدد الأبعاد في السياسة الخارجيَّة الأميركيَّة، يجمع بين الحذر من الانخراط في نزاعاتٍ معقدة من جهة، والتركيز على التوازنات الدوليَّة الكبرى من جهة أخرى.
* باحث وأكاديمي