كيف خسرت ألمانيا منزلتها المرموقة في الشرق الأوسط؟
بيرجيت سفينسون
تزايدت انتقادات البلدان والشعوب الموجهة للسياسة الألمانيَّة بسبب ما يعدُّ ازدواجيَّة معاييرها، الأمر الذي أدى إلى تدهور سمعتها بشكلٍ غير مسبوق، لا سيما في الشرق الأوسط. بينما كان العرب سابقاً يشيدون بكون الشخص «ألمانياً»، باتت هذه الصورة متغيرة اليوم.
اعتاد بعض العرب على مدح ألمانيا قائلين: «ألمانيا فوق الجميع». لكن هذا الإعجاب أصبح شيئاً من الماضي. رغم استمرار التقدير لاستقبال ألمانيا لاجئين من سوريا والعراق، إذ يكاد كل شخصٍ في تلك الدول يعرف أنَّه سوف يعيش في مدنٍ ألمانيَّة مثل أيسن، دورتموند أو برلين. ولكن الشعور السائد الآن هو أنَّ العيش في ألمانيا ليس بالأمر السهل، كما يُلاحظ في شوارع بغداد وبيروت وعمان والقاهرة. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف فقدت ألمانيا شعبيتها؟
وقع تصرف وزيرة الداخليَّة الألمانيَّة كالقنبلة على الشرق الأوسط عندما ارتدت شارة «حب واحد» في المباراة الافتتاحيَّة للمنتخب الألماني لكرة القدم ضد اليابان في قطر في نوفمبر 2022. وكان ذلك ممنوعاً على اللاعبين. وكان لاعبو المنتخب الألماني لكرة القدم قد غطوا أفواههم أثناء التقاط صورة للفريق احتجاجاً على الحظر. وقررت سبعة اتحادات أوروبيَّة لكرة القدم، بما في ذلك الاتحاد الألماني لكرة القدم، في وقت قصير، الامتناع عن ارتداء شارة الذراع، التي ترمز إلى التنوع والتسامح، بسبب تهديد الفيفا بفرض عقوبات على اللاعبين. ارتدتها نانسي فيسر نيابة عن الجميع. أصبحت ألوان قوس قزح على شارة الذراع موضوعاً للكراهية في المنطقة ونُبذت حركة المثليين (حركة مجتمع الميم) التي ترمز إليها. بالكاد كان هناك أي رد فعلٍ رسمي من كبار الشخصيات السياسيَّة في قطر، الدولة المنظمة لكأس العالم. كان هناك صمتٌ دبلوماسيٌّ. ومع ذلك، انتشر الفيديو الذي ظهرت فيه وزيرة الداخليَّة الألمانيَّة على وسائل التواصل الاجتماعي. لم يكن هناك أي تشجيع، وكانت الإدانات هائلة. كانت الإهانة للمضيف أكثر الانتقادات غير المؤذية. قيل مراراً وتكراراً إنَّ لاعبي كرة القدم الألمان قد لا يستطيعون اللعب، ولكن يمكنهم الذهاب إلى الفراش معاً. “أحد عشر من المثليين”، كان التوبيخ من قبل آخرين. على الرغم من إقصاء ألمانيا في الدور التمهيدي، إلا أن الانطباع الذي تركه “جدل الشارة” لا يزال صداه يتردد حتى اليوم.
ولكن لا شيء سرّع من فقدان ألمانيا لسمعتها أكثر من الحرب في قطاع غزة. فهي بمثابة تسونامي وزلزال في آن واحد. فمنذ 7 أكتوبر 2023، أدار آخر مؤيد للألمان ظهره بعد أحداث غزة. بالكاد يتم ذكر مذبحة حماس للإسرائيليين. فالأمر يتعلق فقط بآلاف المدنيين الفلسطينيين الذين لقوا حتفهم في هذه الأثناء، في كل يوم، تُظهر مقاطع الفيديو التي تُبثُّ في جميع أنحاء المنطقة مصير الأطفال والنساء الذين يسقطون ضحايا القوات الصهيونية في حملتها الانتقاميَّة ضد حماس. هذه هي الطريقة التي تقرأها الحكومات في الشرق الأوسط وكذلك شعوبها. ليس الأميركيون وحدهم، بصفتهم حلفاء راسخين لإسرائيل، هم المسؤولون عن الكارثة في غزة، بل الألمان أيضاً وبشكل متزايد. ”يمكن لألمانيا وأمريكا إنهاء هذه الحرب بين عشيَّة وضحاها”، هذا ما يتم ذكره بتكرار يومي . فالولايات المتحدة الأميركيَّة تزود إسرائيل بـ70بالمئة من المعدات العسكريَّة، بينما تزود ألمانيا الـ30بالمئة المتبقيَّة. ومرة أخرى يتم الاستشهاد بازدواجيَّة المعايير كحجة رئيسيَّة للنفور من الألمان. يشعر الناس بخيبة أمل من السياسة الخارجيَّة القيميَّة لالمانيا، كما لا تملُّ وزيرة الخارجيَّة أنالينا بايربوك من الترويج لها ودعوة الأنظمة الاستبداديَّة في المنطقة إلى احترام حقوق الإنسان، بينما في الوقت ذاته تلتزم الصمت أمام الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين؟ ، فبذلك تلاشت الثقة التي بنوها الناس على مر السنين عن ألمانيا بشكل كامل.
وهذا ما تعاني منه المؤسسات السياسيَّة الالمانيَّة العاملة في الشرق الأوسط على وجه الخصوص. سواء مؤسسة فريدريش إيبرت التابعة للحزب الاشتراكي الديمقراطي أو مؤسسة هاينريش بول الخضراء أو مؤسسة كونراد أديناور التابعة للحزب الديمقراطي المسيحي، فجميعهم يشتكون من أن عملهم السياسي قد تضرر بشدة. كما أن الشركاء القدامى يلغون تعاونهم وينأون بأنفسهم. كما تنأى منظمات المجتمع المدني في العراق ولبنان والأردن ومصر بنفسها بعيداً عن رعاة مشاريعها من قبل الألمان. مشهد لم يكن من الممكن تصوره قبل بضعة أشهر فقط حصل في جامعة بيرزيت في رام الله... فهناك طُرد الممثل الرسمي لألمانيا في الأراضي الفلسطينيَّة بالمعنى الحرفي للكلمة، على الرغم من أن ألمانيا لسنوات طويلة كانت أكبر مانح للدعم المالي للسلطة الفلسطينيَّة.
حتى إن لم يكن رفض ألمانيا واضحاً في جميع بلدان الشرق الأوسط، إلا أنه موجود في كل مكان، وإن كان أكثر خفاءً. ففي القاهرة، أُلغيت حفلة موسيقيَّة مع مايكل، نجل دانيال بارنبويم لأنه ألماني ويهودي. كما لم يُسمح لعازف الكمان وقائد أوركسترا الديوان الغربي الشرقي الشهيرة، التي يعزف فيها مصريون أيضاً، بإقامة ورشة العمل الموسيقيَّة المقررة. وفي غضون مهلة قصيرة، نقلت جامعة الأزهر الإسلاميَّة مؤتمراً دولياً بمشاركة فرنسيين وألمان، والذي كان مخططاً له منذ فترة طويلة، إلى أماكن أخرى في القاهرة، بزعم أن ذلك بسبب أعمال الترميم. ولكن في الواقع، لم ترغب الجامعة في توفير أي مكان للأجانب الغربيين الذين يدعمون الحرب الصهيونيةعلى قطاع غزة. وفي تونس، اتُّهِم السفير الألماني بتبرير قتل الفلسطينيين على يد الكيان الصهيوني في قطاع غزة عندما وصف الصهاينة بأنهم ضحايا الإرهاب الفلسطيني في افتتاح مدرسة في تونس. ووصف وزير التربيَّة والتعليم التونسي تصريح بيتر بروغل بأنه مثير للجدل ومعارض للموقف التونسي. وفي اليوم التالي، طالب المتظاهرون أمام السفارة الألمانيَّة في تونس بطرد السفير. بُنيت المدرسة في تونس بتمويل من مؤسسة بنك الائتمان لإعادة الإعمار الألماني.
وفي أمريكا تم إدراك الحقيقة أيضاً بأن ألمانيا خسرت الشرق الأوسط. فكما ذكرت مجلة” فورين بوليسي“، أظهرت دراسة أجراها” المركز العربي“ في مدينة واشنطن في عام 2022 أن غالبيَّة السكان العرب لديهم موقف إيجابي تجاه ألمانيا. والآن، في يناير 2024، تنشر” فورين بوليسي“ دراسة استقصائيَّة أجراها معهد الدوحة في قطر في 16 دولة عربيَّة، والتي وجدت أن 75بالمئة من المشاركين في الاستطلاع كان لديهم موقف سلبي تجاه ألمانيا.
ويتحدث عالم الاجتماع المصري عمرو علي، الذي يحلل العلاقات بين ألمانيا والعالم العربي، عن تحول 180 درجة في الرأي العام. ووفقاً لعلي، الذي يدرّس في الجامعة الأميركيَّة في القاهرة وهو عضو في ”الأكاديميَّة العربيَّة الألمانيَّة للعلوم الشبابيَّة“، فإن الانطباعات الإيجابيَّة عن ألمانيا هيمنت كصورة لألمانيا في أذهان الشعوب في الشرق الأوسط لفترة طويلة. فقد ارتبطت ألمانيا بالسيارات السريعة والمنتجات عاليَّة التقنيَّة والسياح الودودين. ورفضت الحكومة الألمانيَّة المشاركة في حرب العراق عام 2003، وهي نقطة إيجابيَّة أخرى لألمانيا في العالم العربي. ثم كان هناك اللاجئون: فقد لجأ أكثر من مليون سوري وعراقي إلى ألمانيا. وأصبحت برلين، موطن أكبر جاليَّة فلسطينيَّة في الشتات، مركزاً للثقافة والحياة الفكريَّة العربيَّة. ومن الجوانب الإيجابيَّة الأخرى بالنسبة لألمانيا أنها لم يكن لها ماضٍ استعماري مباشر في الشرق الأوسط، على عكس فرنسا
وبريطانيا، بحسب علي.
ومع ذلك، بعد خمسة أيام من هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، حدد المستشار أولاف شولتس مكان ألمانيا المستقبليَّة في خطابه في داخل البرلمان الألماني بقوله: ”في هذه اللحظة، هناك مكان واحد فقط لألمانيا - إلى جانب الكيان الصهيوني“. ومن وجهة نظر الناس في الشرق الأوسط، فإن هذا حدد الخطاب والتركيز الذي تم بموجبه كل ما حصل بعد ذلك: تفرقة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، وإنهاء مخيمات الاحتجاج في الجامعات بعنف، وإلغاء الآراء المعارضة باعتبارها معاديَّة للساميَّة، وإلغاء حفل توزيع جوائز للكاتبة الفلسطينيَّة أدانيا شبلي في معرض فرانكفورت للكتاب. وأخيراً، فصل عالم الأنثروبولوجيا اللبناني المصري غسان الحاج من معهد ماكس بلانك لأن آراءه ”لا تتماشى مع قيم المعهد“. وقد لاحظ عمرو علي شيئاً لم يسبق له مثيل على وسائل التواصل الاجتماعي: ”بأن الشباب في الدول العربيَّة ينشرون مقاطع عن ألمانيا كل يوم تقريباً و لكن لا يوجد أي انطباع إيجابي عن ألمانيا“. ويربط عالم الاجتماع هذا الأمر بإعادة توجيه السياسة العالميَّة، حيث أصبح الدعم الغربي للكيان الصهيوني مصدراً لنفاق لا يطاق. ”يمكننا أن نرى أن تغييرات كبيرة تحدث. وأحد اللاعبين الرئيسيين
في ذلك هي ألمانيا”.
صحفيَّة ألمانيَّة - مراسلة إعلاميَّة في منطقة الشرق الأوسط لألمانيا والنمسا