د. ياسين طرار غند
الذكاء الاصطناعي من منظور علم النفس يمثل مجالا ثريا يجمع بين التكنولوجيا والفهم الإنساني للسلوك والإدراك. يركز هذا المنظور على استكشاف العلاقة بين الأنظمة الذكيَّة والعمليات العقليَّة البشريَّة، مثل التفكير، والتعلم، واتخاذ القرارات، والوعي.
ويمكن تلخيص بعض جوانب دراسة الذكاء الاصطناعي من منظور علم النفس كالتالي:
• محاكاة العقل البشري: يسعى علم النفس والذكاء الاصطناعي إلى إنشاء أنظمة قادرة على محاكاة القدرات العقليَّة مثل التفكير وحل المشكلات. ولذا، يعتمد الذكاء الاصطناعي على فهم العمليات العقليَّة، الأمر الذي يسهمُ في تطوير نماذج تحاكي التعلم المعرفي والإدراكي.
• تحليل التعلم والتكيف: يقدم الذكاء الاصطناعي رؤية أعمق حول كيفيَّة تعلم البشر من خلال تقنيات التعلم الآلي والشبكات العصبيَّة، إذ يتم تدريب النماذج على التعلم من البيانات وتكييف استجاباتها بشكل يشبه التكيف البشري.
• التفاعل بين الإنسان والآلة: يُعدُّ فهم كيفيَّة تفاعل البشر مع الأنظمة الذكيَّة جزءًا مهمَّاً من البحث في هذا المجال. إذ يتم تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي لتكون أكثر توافقًا مع الخصائص النفسيَّة للبشر.
• الأخلاقيات والمسؤوليَّة: يعكس منظور علم النفس مخاوف حول الآثار الأخلاقيَّة للذكاء الاصطناعي، لا سيما في ما يتعلق بتبعات الاعتماد على الأنظمة الذكيَّة وتأثيرها في الحالة النفسيَّة للإنسان، مثل العزلة أو القلق المرتبط بتطورات التكنولوجيا.
• الوعي والإدراك: يشكل الوعي مسألة معقدة في علم النفس، ويُطرح تساؤلٌ عمَّا إذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أنْ تصلَ إلى حالة من "الوعي الذاتي" أو "الإدراك"، وما إذا كان يمكن عدّها كياناتٍ مستقلة أو مجرد أدواتٍ متقدمة.
التكنولوجيا ورفاهيَّة الإنسان
بالتالي، يقدم علم النفس أدواتٍ ورؤى ضروريَّة لفهم وتوجيه تطور الذكاء الاصطناعي بما يضمن تحقيق التوازن بين تطور التكنولوجيا ورفاهيَّة الإنسان، وذلك عبر المساهمة في تطوير أنظمة ذكيَّة تراعي الاحتياجات النفسيَّة والأخلاقيَّة للمجتمع.
النظريات النفسيَّة التقليديَّة لم تتطرق بشكلٍ مباشرٍ إلى الذكاء الاصطناعي، لأنَّ أغلب هذه النظريات وُضعت في وقت لم يكن فيه الذكاء الاصطناعي موجودًا كمفهوم أو كواقع تقني. ومع ذلك، بعض هذه النظريات وفرت أساساتٍ مفاهيميَّة يمكن إسقاطها على الذكاء الاصطناعي بطرقٍ عديدة، وسأوضح هنا بعض الأمثلة البارزة:
• السلوكيَّة: ترى السلوكيَّة، خاصة مع نظريات علماء النفس مثل بي. ف. سكينر وجون واتسون، أن السلوك يتشكل عبر التعلم والاستجابة للتعزيز أو العقاب. ويعدّ الذكاء الاصطناعي في هذا السياق نوعاً من الأنظمة التي يمكن تدريبها على الاستجابة لمؤثرات محددة، تمامًا مثل "التعزيز الإيجابي" أو "التعزيز السلبي" في التعلم الآلي.
• نظريَّة المعرفيَّة: يهتم علم النفس المعرفي بدراسة العمليات العقليَّة مثل التفكير، والإدراك، والذاكرة. تُستخدم هذه المفاهيم في تصميم الخوارزميات والنماذج الذكيَّة، مثل الشبكات العصبيَّة الاصطناعيَّة.
• النموذج الإنساني للمعرفة والتعلم (جان بياجيه): تعدُّ نظريَّة بياجيه في مراحل النمو العقلي والتعلم أساسيَّة لفهم كيف يكتسب البشر المعرفة. وفي الذكاء الاصطناعي، نرى استخدامًا لمفاهيم مشابهة في تقنيات التعلم التدريجي، حيث يتم بناء النماذج على مراحل، ويزداد تعقيدها مع تطورها، بشكل يشابه مراحل النمو المعرفي.
• نظريات الذكاء المتعدد (هاورد غاردنر): تتحدث هذه النظريَّة عن أنَّ الذكاء ليس نوعًا واحدًا بل يتكون من أنواع متعددة، مثل الذكاء اللغوي، المنطقي، البصري، وغيرها.
• نظريَّة العقل: يُستخدم هذا المصطلح في علم النفس للإشارة إلى قدرة الفرد على فهم أنَّ الآخرين لديهم حالات عقليَّة مستقلة (مثل الأفكار، والرغبات، والمشاعر).
• نظريَّة التحليل النفسي (سيغموند فرويد): رغم أن التحليل النفسي يركز على اللاوعي والدوافع النفسيَّة، فإن بعض المفاهيم في الذكاء الاصطناعي ترتبط بشكل غير مباشر بهذا الطرح.
وبهذا، يمكن القول إن النظريات النفسيَّة لم تتناول الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر، لكنها توفر إطارًا مفاهيميًا لفهم وبناء نماذج تتفاعل بشكل قريب من الأنماط السلوكيَّة والعقليَّة البشريَّة.
تشخيص الأمراض النفسيَّة
نعم، هناك توجهٌ متزايدٌ نحو استخدام الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض النفسيَّة، إذ يتم تطوير أنظمة متقدمة لمساعدة الأطباء والمعالجين النفسيين على تحديد الحالات النفسيَّة بدقة أكبر. لكن من المهم التنويه أنَّ الذكاء الاصطناعي لا يحل محل الأطباء، بل يعدّ أداة داعمة في العمليَّة التشخيصيَّة. وهنا بعض الطرق التي يُستخدم
بها الذكاء الاصطناعي في هذا السياق:
• تحليل البيانات الضخمة: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كميات كبيرة من البيانات الطبيَّة والنفسيَّة، مثل سجلات المرضى والتاريخ الطبي، لتحديد الأنماط والاتجاهات التي قد تشير إلى حالات نفسيَّة معينة.
• التعرف على الكلام ونبرة الصوت: من خلال تحليل نبرة الصوت، واختيار الكلمات، وسرعة الكلام، يستطيع الذكاء الاصطناعي الكشف عن علامات مرتبطة بالاكتئاب أو القلق.
• تحليل تعابير الوجه وحركات الجسد: يستخدم الذكاء الاصطناعي تقنيات التعرف على الوجه لتحليل تعابير الوجه وحركات الجسم التي قد تعكس مشاعر أو حالات نفسيَّة.
• التطبيقات القائمة على الاستبيانات والتقييمات الرقميَّة: هناك تطبيقات ذكيَّة تقوم بجمع البيانات عبر استبيانات رقميَّة، حيث يجيب المستخدمون على أسئلة محددة حول مشاعرهم وسلوكياتهم. ثم يستخدم الذكاء الاصطناعي هذه البيانات لتقديم تقييمات حول الصحة النفسيَّة، مثل احتماليَّة الإصابة بالاكتئاب أو اضطرابات القلق.
• التعلم العميق والشبكات العصبيَّة: عبر استخدام تقنيات التعلم العميق، يتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على التعرف على الأنماط المعقدة المرتبطة بالأمراض النفسيَّة، مثل اضطرابات الشخصيَّة أو اضطرابات النوم. يساعد الذكاء الاصطناعي في تحسين دقة التشخيص وتوفير أدوات لمراقبة الحالات بشكل مستمر، ما قد يقلل من احتماليَّة التأخر في التشخيص ويسهم في متابعة تطور الحالة بدقة.