نبيه البرجي
تلك العلاقة الفرويدية التي تجعلنا نسأل "لماذا تعشق أميركا إسرائيل؟"، و"لماذا تكره إسرائيل أميركا؟". ربما كانت الإجابة "انه الصراع حول قيادة العالم". الحاخام مئير كاهانا كان يقول: مهمتنا، أيضاً، قيادة العالم الآخر !
أميركا، بالامكانات الاستراتيجية الضاربة في أقاصي الأرض. وإسرائيل، بالامكانات الأيديولوجية الضاربة في أقاصي السماء. ذات يوم قالت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية في عهد بيل كلينتون، "طفلتنا الجميلة في الشرق الأوسط". ايتامار بن غفير، خليفة كاهانا، قال "متى يفهم الأميركيون لولانا لما كان العالم؟".
الاثنتان ضد إيران، بالسياسات المستحيلة. الأولى كيفية ترويضها، والثانية كيفية تقويضها. جنون بنيامين نتنياهو الذي ازداد هولاً بخوفه من بوابة الزنزانة، ومن طبق الحساء الذي تأنف منه القطط. بشعاره الفضفاض والذي تعجز عنه الأمبراطوريات (تغيير الشرق الأوسط)، احتار من أين تبدأ عملية التغيير. من غزة، أو من لبنان، أو من إيران. عاموس هارئيل وصفه بـ"ذلك الرجل الذي يظن وهو في قعر الزجاجة، انه الاسكندر ذو القرنين"، قبل أن يكتشف، ان في غزة، أو في لبنان، أنه مجرد "تمثال من الطين" لولا الامدادات الأميركية.
بول كنيدي، المؤرخ البريطاني، وصاحب "صعود وسقوط القوى العظمى"، قال "عادة يبدأ غروب الأمبراطوريات، أو الممالك، بحكم المجانين". إلى اين يذهب جنون نتنياهو بإسرائيل ؟ الحاخام زئيف ستيرنهيل يجيب "... إلى حيثما تكون النهاية". من تراه يتصور أن ذلك الطوفان من الضحايا، إن في غزة أو في لبنان، يمكن أن يمحى من الذاكرة. من زمان، قال الفيلسوف الفرنسي جان جينيه، عشية مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان، عام 1982، "هناك، حيث الأزمنة تمشي فوق الجمر".
انه المنطق التوراتي الذي يقود إلى ذلك الدمار الذي لا نظير له في التاريخ. كنا قد كتبنا عن "عولمة اللامبالاة" (وكان يفترض أن نكتب عن "عولمة التواطؤ).
في حديث مع الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ـ ديستان، حين كان رئيساً للجنة الدستور في الاتحاد الأوروبي، تمحور كلامه عن دور الضمير في بناء الدول. أيضاً في بناء العالم. ثمة عالم الآن غاب عنه الضمير، خصوصاً حيال المسار التراجيدي للشرق الأوسط. هل هو "صدام الحضارات". كما في نظرية صمويل هانتنغتون، أم هو "صدام الأيديولوجيات" في رأي فرنسيس فوكوياما، أم هو "صدام الديانات"، كما لاحظ غانتر غراس؟
ما يكتب الآن في الولايات المتحدة. اذا كان شبح دونالد ترامب قد لاحق جو بايدن على امتداد السنوات الأربع المنقضية، يبدو أن هذا الأخير يريد الثأر من خلفه، على امتداد السنوات الأربع المنتظرة. هكذا أقفل أمامه طرقات الشرق الأوسط بالجثث، وهكذا ذهب بالشرق الأوروبي إلى حدود الحرب العالمية الثالثة. في هذه الحال، ماذا يمكن أن يرث الرئيس المنتخب؟ لكنه أتى بفريق عمل يستطيع أن يفتح، بالرؤوس الثقيلة، أو بالأحذية الثقيلة، كل الأبواب الموصدة؟ لا يعني ذلك، في أي حال، التخلي القفازات الحريرية بين الحين والآخر.
الجنرال ديفيد بترايوس الذي حذّر من الانزلاق، مرة أخرى، في "استراتيجية المستنقعات"، ومن فيتنام إلى أفغانستان "حيث كان علينا أن نضرب رؤوسنا بالصخور، وحيث لحى المقاتلين تعود إلى العصر الحجري"، حذّر من "الهوة الإيرانية"، ليرى أن التجارب الأخيرة، وكانت التجارب المروعة، جعلت الأتراك، والإيرانيين، وآخرين بطبيعة الحال، يتجهون إلى السياسات الواقعية، وكذلك السياسات البراغماتية، لأن البديل هو الجحيم.
لكن بترايوس الذي أبعدته "لحظة عاطفية" عن الضوء، رأى "أن علينا أن نفهم العالم بصورة أفضل"، وهو الذي يتوجس من التفاعلات الزلزالية (الأمبراطورية) في آسيا، ليضيف جوزف ستيغليتز، الحائز نوبل في الاقتصاد، بضرورة بلورة مفاهيم أكثر وعياً بفلسفة القوة، بعيداً عن "استراتيجية نهش الكلاب"، حيث الاستراتيجيات المتقطعة في مختلف مناطق العالم.
لم يعد سؤالنا إلى أي يمضي بنيامين نتنياهو بإسرائيل. إلى أين يمضي بالشرق الأوسط ؟ الليلة الأخيرة قبل وقف النار في لبنان كانت ليلة جهنم. الناس هربوا من منازلهم إلى الشوارع، والى الحقول. هكذا رؤية البرابرة للحرب. القتل لا القتال، كما في الجنوب، حيث كان "بكاء الميركافا" في كل مكان، ليسأل رئيس تحرير صحيفة "هاآرتس" آموس شوكين ما اذا كان القواعد التاريخية والفلسفية للسلام قد ضاعت في ليالي الدم...
مفكرون، ومؤرخون وإسرائيليون يستعيدون تساؤل وزير خارجية سابق هو أبا ايبان (1966 ـ 1974 ) ما اذا "جيء بنا إلى هنا في مهمة محددة"، اذ متى كان للأمبراطوريات أن تمضي في خط مستقيم، خصوصاً حين يأخذ الصراع حول قيادة القرن ذاك المنحى الهيستيري.
ايبان استعاد ما فعله جوزف ستالين، عام 1928. حين قام بتجميع اليهود في مدينة برويجان على الحدود الروسية ـ الصينية، ومنحهم الحكم الذاتي، تحت اسم "جمهورية بيرويجان"، لابعادهم عن مفاصل السلطة في الاتحاد السوفياتي.
المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم لاحظ كيف أن بنيامين نتنياهو، الذي كل ما يبتغيه البقاء على "عرش داود"، يضع إسرائيل أكثر فأكثر على خط الزلازل، وأكثر من اي دولة أخرى في الشرق الأوسط"، مستعيداً، وهو يرى ذلك التصدع الدراماتيكي، أن داخل المؤسسة السياسية أو داخل المؤسسة العسكرية، ما حدث غداة وفاة الملك سليمان حين كان انشطار المملكة اليهودية إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، لتندلع حرب القبائل، أو حرب الأسباط لعشرات السنين.
ثمة رجل مجنون على رأس السلطة في إسرائيل. كل تلك المفاوضات المعقدة، والشاقة، من أجل الحصول على ضمان أميركي بالبقاء حيث هو لا في الزنزانة، وأمامه طبق الحساء الذي تأنف منه الفئران. توماس فريدمان لم ير فيه المجنون فقط، بل الغبي والبشع. الأكثر غباء والأكثر بشاعة، في تاريخ اليهود.
في هذه الحال، علينا أن نستنتج، ما مآل نتنياهو. الأهم ما مآل إسرائيل.