المباني التراثيَّة تحت وطأة الإهمال والعوامل البيئيَّة

ريبورتاج 2024/12/03
...

 بغداد: سرور العلي
 تصوير: كرم الأعسم

في شارع الرشيد ببغداد، يتوقف الستيني إبراهيم حسين أمام المبنى التاريخي لمصرف الرافدين، الذي بدأت عمليات هدمه مؤخراً، ليعود بذاكرته إلى خمسينيات القرن الماضي عندما تم بناء المبنى على يد المصمم البريطاني فيلب هيرست. رغم مرور أكثر من ستة عقود، كان هذا المبنى يعد أحد المعالم المميزة للعمارة الحديثة في بغداد وأيقونة شارع الرشيد.
يروي حسين قائلاً: "رغم الترميمات المتكررة التي أُجريت للمبنى على مر السنين، إلا أن حالته باتت متدهورة للغاية، فقد ظهرت تشققات في الجدران تهدد استقراره، ما جعله عرضة للسقوط في أي لحظة".

التساؤلات حول الهدم
صلاح كامل، أحد أصحاب المحال التجارية الواقعة بالقرب من المبنى، طرح تساؤلات عدة حول سبب الهدم، وما إذا كانت هناك نية للاستفادة من الموقع لإنشاء مشروع آخر. وفي حين رفضت الجهات المعنية في مصرف الرافدين التعليق على قرار الهدم، أثار هذا الموضوع ردود فعل غاضبة بين العديد من سكان بغداد. فالكثير منهم
يعتبرون المباني التراثية جزءاً أساسياً من هوية المدينة، ويطالبون بإيجاد حلول بديلة للحفاظ عليها دون اللجوء إلى هدمها.

الأثر الثقافي والتاريخي
علي داوود، صاحب محل تجاري في شارع الرشيد، يرى أن المبنى ليس مجرد هيكل مادي، بل هو رمز للهوية الحضارية لبغداد، وكان لفترة طويلة أحد معالمها السياحية التي جذبت العديد من الوفود الأجنبية. وأضاف داوود: "هذا المبنى يشكل جزءاً من إرثنا الثقافي، ويعكس التاريخ المعماري لبغداد، وكان مكاناً مهماً في الماضي ولا يمكن تدميره بسهولة".
من جهة أخرى، عبرت بتول سعد، أحد السكان المحليين، عن رأيها بضرورة هدم المبنى بسبب حالته المتدهورة، حيث أكدت أن المبنى أصبح يشكل تهديداً مباشراً على سلامة المارة. وقالت: "لقد أصبح المبنى متهالكاً جداً، وهو خطر حقيقي على الأرواح، لذا من الأفضل أن يتم هدمه وإقامة مشروع حديث يخدم المدينة ويواكب التطور."

المعالم التراثيَّة
لا يقتصر الأمر على مبنى مصرف الرافدين فقط، إذ يمتد شارع الرشيد ليشمل العديد من المباني والمواقع التراثية الأخرى التي تقاوم الاندثار. من بين هذه المعالم، مقاهي كوكب الشرق والزهاوي، والجوامع الشهيرة مثل جامع الحيدر خانة ومرجان، بالإضافة إلى الأسواق الشعبية مثل سوق هرج والسراي. جميع هذه المواقع تشكل جزءاً من ذاكرة بغداد، وتعد مصدراً ثقافياً وفنياً مهماً للمدينة.

آراء الباحثين
عادل حسوني العرداوي، الباحث في الشأن التراثي، أوضح في حديثه لـ"الصباح" أن "مبنى مصرف الرافدين كان معلماً حضارياً ومعمارياً بارزاً في بغداد، إلا أن تعرضه لأضرار جسيمة نتيجة القصف في الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات أثر على استقراره".
وأضاف العرداوي "اللجنة الفنية التي درست حالته قررت أن المبنى يشكل خطراً، وبالتالي كان الهدم هو الحل الوحيد"، مؤكداً أن "الحفاظ على التراث يتطلب رقابة صارمة من الجهات المعنية، مثل الهيئة العامة للآثار والتراث، من أجل منع التعدي على المباني التراثية والتأكد من الحفاظ على قيمتها التاريخية."

الآثار ثروة
سفير التراث ياسر العبيدي أوضح لـ "الصباح" أهمية الحفاظ على المباني التراثية، مشيراً إلى أن عمليات الترميم يجب أن تحافظ على جوهر المبنى الأصلي. وقال العبيدي: "التراث هو جزء من هوية العراق، ولا ينبغي أن يُمس جوهره من خلال التعديلات"، مشيراً إلى أن "بعض المباني التراثية في بغداد، مثل الشناشيل والبيوت القديمة، تمت صيانتها بشكل دقيق للحفاظ على قيمتها التاريخية، بينما تم إهمال بعض المباني القديمة مثل فندق الجواهري في سوق هرج، لم يتم ترميمه حتى الآن".

خطط التطوير
في سياق تعزيز الحفاظ على التراث، أكد المهندس محمد الربيعي، المتحدث باسم أمانة بغداد، في حديثه لـ "الصباح" أن الأمانة تقوم حالياً بتنفيذ خطة لتطوير مركز بغداد التاريخي، الذي يشمل شارع الرشيد.
وقال الربيعي: "أمانة بغداد أنجزت مشاريع تطويرية في شارع المتنبي، ومن ثم انتقلت إلى محور السراي الذي يشمل منطقة الباب المعظم، وصولاً إلى ساحة تمثال الرصافي. وهذه المرحلة تشمل إعادة تأهيل ستة مبانٍ في شارع الرشيد، مع تطوير البنية التحتية بالكامل، بما في ذلك الأسلاك الكهربائية والواجهات المعمارية، بالتعاون مع وزارة الثقافة والسياحة والآثار، لضمان الحفاظ على التراث المعماري."

وزارة الثقافة
في وقت سابق، أعلنت وزارة الثقافة عن إطلاق مجموعة من المبادرات للحفاظ على التراث الوطني، والتي تتضمن تسجيل المباني التراثية في المنظمات الدولية مثل اليونسكو، موضحة أن هذه الخطوات تهدف إلى زيادة الوعي العالمي بالتراث العراقي والحفاظ عليه، مؤكدة في الوقت نفسه أنها تواصل جهودها مع مختلف الجهات المعنية لتطوير آليات الحفاظ على أكثر من أربعة آلاف مبنى تراثي في جميع أنحاء العراق.
وبينما تستمر بغداد في مواجهة التحديات المتعلقة بالحفاظ على مبانيها التراثية، تبقى المسؤولية الكبرى تقع على عاتق السلطات والجهات المختصة في ضمان صيانة هذه المباني وحمايتها من الإهمال والهدم، الأمر الذي يتطلب أيضاً تكاتف جهود الجميع للحفاظ على هوية المدينة وتاريخها العريق.