انحسار فرص التعيين الحكومي يدفع الشباب نحو القطاع الخاص
بغداد: سجى عماد
في أحد أحياء بغداد، يعمل مصطفى، (شاب في التاسعة والعشرين من عمره)، على تصميم قطع أثاث فريدة تجمع بين الحداثة والطابع العراقي الأصيل. كانت بداية مصطفى في عالم الأعمال الحرة قبل عامين، بعد أن فقد الأمل في الحصول على وظيفة حكومية. بدأ برأس مال بسيط، مدعوماً من أصدقائه، ليحول هوايته بالتصميم إلى مشروع خاص به، يتمكن من خلاله من تحقيق دخل مستقل. قصته لا تمثل استثناء، بل هي جزء من توجه عام لدى الشباب نحو الأعمال الحرة، في وقت تشهد فيه سوق العمل تحديات كبيرة، وتنحسر فرص الحصول على وظائف في القطاع العام.
فاطمة يحيى (طالبة جامعية)، تشارك في هذا التوجه من خلال مشروعها الصغير في مجال الهدايا. تقول فاطمة لـ"الصباح": إن "الأعمال الحرة تمنحنا حرية الإبداع وبناء مستقبلنا بأنفسنا. على الرغم من التحديات وصعوبة الحصول على الدعم المجتمعي، فإن الأسواق العالمية قد جعلت التسويق أسهل".
وتضيف لـ "الصباح" قائلة: "أعتقد أن العمل الحر يمنحني تنوعاً وإبداعاً أكبر من الوظائف الحكومية، خاصة في ظل صعوبة الحصول على فرص عمل ثابتة". هذه الكلمات تعكس كيف أن العديد من الشباب العراقيين يفضّلون العمل المستقل، الذي يوفر لهم حرية أكبر لتطوير أفكارهم ومهاراتهم بعيداً عن القيود التقليدية".
الانتفاء إلى الوظائف
أما مقتدى أنور (طالب جامعي)، فقد خاض تجربة خاصة في بيع الشالات النسائية. ورغم الصعوبات التي واجهته في بيع منتجاته بسبب غياب الضمانات الاقتصادية، إلا أنه يؤمن بأن العمل الحر يوفر فرصاً حقيقية للشباب للخروج من دائرة الوظائف الحكومية. يقول مقتدى: "رغم أن تجربتي لم تكن ناجحة في البداية، إلا أن العمل الحر يمنحنا الفرصة لاستكشاف إمكانياتنا وفتح آفاق جديدة، خصوصاً إذا توفّر الدعم المجتمعي."
تحديات الاقتصاد
وبحسب آخر مسح أجرته وزارة التخطيط، بلغت نسبة العاملين أكثر من 83 بالمئة من مجموع القوى العاملة في العراق، في حين وصلت نسبة البطالة إلى 16.5 بالمئة. ومع تزايد أعداد الخريجين سنوياً التي تقدر بأكثر من 200 ألف، يعاني الكثير منهم من قلة الوظائف المتاحة في القطاع العام الحكومي، الذي يعاني بدوره من التخمة والترهل، ويكلف الموازنة أكثر من سبعة تريليونات دينار شهرياً. يضاف إلى ذلك أن أكثر من 90 بالمئة من الإيرادات تعتمد على تصدير النفط، الذي يتأثر بشكل كبير بتقلبات السوق العالمية، ما يجعل الوضع الاقتصادي أكثر تحدياً، ويزيد من الحاجة إلى تطوير قطاعات أخرى مثل القطاع الخاص.
بحاجة إلى دعم
الخبير الاقتصادي دريد العنزي يرى أن تحفيز الشباب على الدخول في مجال الأعمال الحرة يتطلب دعماً حكومياً حقيقياً. ويقترح العنزي إنشاء مصانع صغيرة للشباب بتمويل حكومي، على أن تركز هذه المصانع على تسويق المنتجات المحلية، مشدداً في الوقت نفسه، على ضرورة أن تعمل الحكومة على توفير قرارات تشجع على الشراء المحلي، بما في ذلك فرض رسوم على المنتجات المستوردة، لتعزيز الإنتاج المحلي. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد العنزي أهمية دعم القطاع الزراعي من خلال توزيع الأراضي الزراعية والقروض المناسبة للخريجين، ما يوفر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لشريحة واسعة من الشباب.
وزارة العمل
المتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، نجم العقابي، أكد
لـ "الصباح" أن الوزارة تقدم عدداً من الخدمات لدعم الشباب الراغبين في دخول عالم الأعمال الحرة، موضحاً أن من هذه الخدمات: القروض من دون فوائد، والدورات التدريبية المتخصصة، وعرض قصص النجاح الشبابية عبر وسائل الإعلام".
كما أشار العقابي إلى أن الوزارة تخطط لزيادة مبلغ صندوق الإقراض لدعم المزيد من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، رغم التحديات المرتبطة بضمانات القروض، مؤكداً أن الوزارة ملتزمة بتوفير الدعم اللازم لمساعدة الشباب على تجاوز العقبات وتحقيق النجاح في مشاريعهم.
مبادرة "ريادة"
الحكومة، وتطبيقاً لمنهاجها الوزاري الذي تبنته، أطلقت مبادرة تحت اسم "ريادة" من أجل تمكين الشباب ودعمهم في إقامة مشاريع مدرّة للدخل.
وفي هذا الصدد، يقول رئيس فريق المبادرة، مستشار رئيس مجلس الوزراء، الدكتور حسين فلامرز : إن "مبادرة ريادة التي أطلقها رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، في الرابع من آذار2023، تهدف إلى خلق بيئة ريادية خصبة للشباب العراقي، وتستهدف الفئة العمرية بين 16 و50 سنة، التي تشمل كلاً من الطلبة والخريجين".
وأوضح في حديثه لـ"الصباح" أن "المبادرة تتكون من خمس مراحل رئيسة، تبدأ بالتسجيل الإلكتروني عبر تطبيق مخصص، حيث يمكن للمشاركين من جميع أنحاء العراق التقديم بسهولة، وبعد التسجيل، يمر المشاركون بتدريب حضوري مكثف يستمر خمسة أيام، يتعرفون خلالها على أفضل الطرق لتأسيس مشروع ناجح وكيفية دراسة الجدوى الاقتصادية لأي فكرة تجارية، وفي اليوم الأخير من التدريب، يحصل كل مشارك على خطة جدوى اقتصادية جاهزة لمشروعه".
وأضاف أن "تمويل المشاريع يتم من خلال القروض الحكومية، التي تقدمها مصارف مثل مصرف الرشيد والرافدين، هو أحد المكونات الأساسية للمبادرة، وبعد اجتياز مرحلة التدريب، يحصل المشاركون على فرص للحصول على قروض لدعم مشاريعهم الصغيرة والمتوسطة"، مشيراً إلى أن المبادرة تضمن المتابعة المستمرة للمشاركين على مدار عشر سنوات، حيث يتم تقديم استشارات إضافية ودعم مستمر للمشاريع الناشئة.
وأكد الدكتور فلامرز أن المبادرة لاقت استجابة واسعة منذ إطلاقها، حيث بلغ عدد المشاركين في السنة الأولى 417 ألف شخص، منهم 200 ألف طالب، والبقية من الخريجين أو الأفراد خارج المنظومة التعليمية، مضيفاً أنه "تم تدريب 60 ألف شخص، من بينهم 30 ألفاً أكملوا التدريب بنجاح، بينما تم منح 8 آلاف قرض لدعم المشاريع المختلفة التي يعمل عليها هؤلاء الشباب، ما يسهم بشكل مباشر في تحفيز الاقتصاد المحلي".
وشدد مستشار رئيس مجلس الوزراء، على أن مبادرة ريادة تمثل خطوة استراتيجية نحو تعزيز دور القطاع الخاص، حيث إن التوجه نحو دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة يعزز من قدرة الشباب على خلق فرص عمل جديدة ويسهم في حل المشكلات المجتمعية بشكل عملي.
كما أكد أن الحكومة تهدف من خلال هذه المبادرة إلى تهيئة شباب قادرين على قيادة الاقتصاد في المستقبل، بعيداً عن الاعتماد الكبير على الوظائف الحكومية.
وفي سياق حديثه، أشار الدكتور حسين فلامرز إلى أن التكنولوجيا لعبت دوراً كبيراً في تسهيل عملية التسجيل والتدريب، حيث إن مبادرة "ريادة" هي مبادرة إلكترونية بالكامل، الأمر الذي يعني أن المشاركين يمكنهم التقديم والتدريب والحصول على القروض من منازلهم، ما يسهل الوصول إلى الفرص بغض النظر عن مكان تواجدهم في العراق.
وأكد الدكتور فلامرز أن المبادرة ليست مجرد تدريب وتوظيف، بل هي فرصة حقيقية لخلق جيل من رواد الأعمال الذين يسهمون في بناء مستقبل العراق، منوهاً بأن هذا النوع من المشاريع سيؤدي إلى تغيرات
إيجابية على المدى البعيد، حيث سيسهم في تقليل البطالة وتعزيز الاقتصاد المحلي من خلال مشاريع صغيرة ومتوسطة تعتمد على المهارات الوطنية وتسهم في تطوير المجتمع بشكل عام.
وأشار إلى أن العالم بدأ يتجه نحو القطاع الخاص، وأن المستقبل سيكون مليئاً بفرص العمل في هذا القطاع، في حين أن الوظائف الحكومية ستصبح محدودة مع مرور الوقت.
في ظل الظروف الاقتصادية التي يمر بها العراق، أصبح العمل الحر الخيار الأفضل لكثير من الشباب الذين يسعون لتحقيق الاستقلالية المالية. ومع زيادة الدعم الحكومي والقطاع الخاص، فإن العراق أمام فرصة لبناء جيل من رواد الأعمال الذين يمكنهم دفع عجلة الاقتصاد الوطني وتطوير القطاع الخاص بما يخدم مستقبل البلاد.