الجزر العشوائي.. خطرٌ يُهَدِّدُ الصحة العامة والبيئة

ريبورتاج 2024/12/15
...

 قاسم موزان
 تصوير: نهاد العزاوي

مع الارتفاع المطرد لعدد السكان في البلاد، تزداد الحاجة إلى تلبية متطلباتهم الغذائيّة. وفي ظل تراجع البنى التحتية الصحيّة والبيئيّة، تبرز ظاهرة الجزر العشوائي في شوارع بغداد وبقية المحافظات، مما أدى إلى تفاقم التلوث البيئي والصحي بشكل مقلق.

ففي غياب الرقابة الصحية والمجازر النظاميّة، يتم ذبح الحيوانات في الأماكن العامة والأزقة، مما يؤدي إلى تراكم المخلّفات من دماء وأحشاء حيوانيّة على الأرصفة. هذه المخلّفات تشكل بيئة خصبة لنمو الفيروسات والبكتيريا، ما يزيد من خطر انتقال الأمراض الخطيرة التي تهدد صحة المواطنين بشكل مباشر.
تتعرض اللحوم في هذه المواقع لتلوث الجو بسبب الغبار وعوادم السيارات، ما يجعلها غير صالحة للاستهلاك البشري، وتعرض صحة المواطنين إلى تهديدات صحية مدمّرة. كما أن استهلاك هذه اللحوم يمكن أن يؤدي إلى انتقال أمراض قد لا تظهر أعراضها إلّا بعد فترة طويلة، مما يشكل خطراً على صحة الأفراد والمجتمع.
في هذا السياق، يطالب الخبراء والمواطنون بضرورة إنشاء مجازر أنموذجيّة خاضعة للرقابة الصحيّة البيطريّة، فضلاً عن تكثيف الحملات الرقابيّة للحد من الجزر العشوائي وحماية صحة المواطنين من هذه الممارسات.

الجزر العشوائي واقع مرير
في شوارع بغداد، والعديد من المدن العراقيّة الكبرى، أصبح الجزر العشوائي حدثاً يوميّاً يعكّر صفو الحياة الحضريّة. فبينما تزيّن بعض المدن بمظاهر الحياة المدنية المتحضرة، يعاني المواطنون من مشهد الدماء المتناثرة على الأرصفة وأشلاء الحيوانات المذبوحة التي لا تجد من يهتم بإزالتها. وتستمر هذه الظاهرة في الانتشار في أماكن مكتظة، مما يخلق بيئة غير صحيَّة تماماً.
الجزر العشوائي لا يقتصر فقط على الأحياء الفقيرة أو المناطق الريفية، بل وصل إلى المناطق الحضرية المكتظة بالسكان، حيث يتم الذبح بشكل غير قانوني في الشوارع والأسواق وداخل الأزقة من دون أي رقابة صحية أو بيطرية. هذه الممارسات المروّعة تضر بالصحة العامة بشكل مباشر، كما تسهم في تدهور البيئة بشكل ملحوظ.
انخفاض الأسعار وارتفاع المخاطر
يتعرّض الكثير من العراقيين لضغوط اقتصادية تجبرهم على شراء اللحوم من أسواق غير مرخصة، حيث تباع اللحوم المذبوحة في الشوارع بأسعار أقل من تلك المعروضة في الأسواق النظاميَّة. في هذا السياق، يقول أبو حسن، وهو أحد سكان بغداد: "نشتري اللحوم من بعض القصابين في الشوارع لأنَّ الأسعار أرخص، لكننا نعلم جيداً أن هذه اللحوم لم تخضع للفحص البيطري، لكن لا خيار لنا."
هذا التحول نحو شراء اللحوم غير المراقبة يكشف عن عواقب خطيرة، إذ يشير الأطباء البيطريون إلى أن اللحوم التي يتم ذبحها في الشوارع تكون معرضة بشكل مباشر للأتربة والذباب، وعوادم السيارات، وهو ما يخلق بيئة خصبة لانتقال العديد من الأمراض. من بين هذه الأمراض، تتصدر الحمى النزفيّة والحمى القلاعيّة قائمة التهديدات الصحيّة الخطيرة التي قد تنتقل إلى الإنسان بسبب استهلاك لحوم غير خاضعة للرقابة.

تهديد للأمن الصحي
يرى العديد من الأطباء البيطريين أنّ ظاهرة الجزر العشوائي تعد تحدياً صحيّاً يُهدد حياة المواطنين. د. علي جاسم جلاب، نقيب الأطباء البيطريين في محافظة واسط، يؤكد أنّ الذبح خارج المجازر المعتمدة هو مصدر رئيسي لانتقال الفيروسات الخطيرة التي قد تسبب أمراضاً فتاكة. ويقول لـ "الصباح" :"الجزر العشوائي يعرض اللحوم لمخاطر بيئيّة وصحيّة، حيث يتعرض اللحم للذباب والمواد السامة الناتجة عن عوادم السيارات، ما يرفع من احتمالية إصابة الأشخاص بأمراض مميتة".
ويتابع جلاب: "من أبرز الأمراض التي يمكن أن تنتقل عبر الذبح العشوائي هي الحمى النزفيّة، التي قد تكون قاتلة إذا لم يتم علاجها بسرعة، فضلا عن الحمى القلاعيّة التي يمكن أن تؤدي إلى ضرر جسيم على الثروة الحيوانية، ما يسبب أزمة في توفير اللحوم."

جهود تصطدم
بتردي البنية التحتيّة
على الرغم من أهمية مكافحة الذبح العشوائي، إلّا أن الجهات المعنية ما زالت تواجه صعوبة كبيرة في التصدي لهذه الظاهرة بسبب النقص الحاد في البنية التحتيّة
الصحيّة. ففي حديث مع د. محمد صباح داود، مدير قسم الصحة العامة في دائرة صحة الأنبار، أشار إلى أن هناك محاولات من قبل السلطات المحلية لتقليص الظاهرة. وقال: "نعمل على مراقبة أماكن الذبح العشوائي بشكل دوري عبر تشكيل لجان رقابيَّة، وتحرير المخالفات وفرض غرامات على القصابين غير الملتزمين".
لكن داود يعترف أن هذه الجهود تبقى غير كافية طالما لا توجد مجازر نظاميّة تلبي احتياجات المواطنين، موضحاً أن "النقص الحاد في المجازر الأنموذجيّة في المناطق الريفية والنائية يعيق عمل الرقابة. لا يمكننا توفير بديل صحي وملائم إلا من خلال بناء بنية تحتية قوية من المجازر المجهزة تجهيزاً مناسباً."

الجزر العشوائي
يلوث البيئة
من بين أخطر آثار الجزر العشوائي ليس فقط الضرر الصحي، بل التلوث البيئي الذي يسهم بشكل مباشر في تدهور البيئة المحلية. المخلفات الناتجة عن الذبح مثل الدماء والأحشاء والصوف تلوث المساحات العامة وتخلق بيئة خصبة لنمو الفيروسات والبكتيريا. وعلى الرغم من أن الجهات المعنية قد بدأت في اتخاذ إجراءات لمكافحة هذه الظاهرة، إلا أن المشكلة ما زالت قائمة.
المهندس قيس ناجح عبد، مدير قسم البيئة في الأنبار، يوضح الأضرار البيئية الناتجة عن الجزر العشوائي بالقول: "الدماء والمخلّفات المتناثرة في الشوارع تصبح مصدراً مهماً لتكاثر البكتيريا والفيروسات، مما يزيد من انتشار الأمراض. فضلا عن ذلك، تسهم هذه الممارسات في تدهور البيئة بشكل عام، مما يعرض الحياة البرية والإنسانية للخطر."

هل تكفي الجهود الحالية؟
رغم تأكيد الحكومة على ضرورة مكافحة الجزر العشوائي، إلا أن التحديات تبقى كبيرة. د. ثائر صبري، مدير قسم الوبائيات في دائرة البيطرة التابعة لوزارة الزراعة، يقول: "نحن بحاجة ماسة إلى زيادة عدد المجازر المعتمدة في البلاد"، مضيفاً "لدينا نحو 52 مجزرة فقط بينما نحن بحاجة إلى 300 مجزرة لتلبية احتياجات المواطنين بشكل آمن وصحي"، وأضاف صبري قائلاً: "نعمل مع الحكومة على مشروع إنشاء مجازر جديدة في جميع أنحاء البلاد، وقد تم رفع هذه المطالبات إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء."
فضلا عن ذلك، يشير صبري إلى أن الكثير من المجازر الموجودة حاليّاً لا تعمل بكامل طاقتها بسبب نقص الدعم وعدم توافر الإمكانيات اللازمة، مؤكدا بالقول: "البنية التحتية للمجازر في العراق
تتطلب تجديداً شاملاً إذا أردنا محاربة ظاهرة الجزر العشوائي بشكل فعّال."

حلول مقترحة ورؤى جديدة
تتفق معظم الأطراف المعنية على ضرورة توفير بنية تحتية
صحية وبيئية جديدة، مع التركيز على بناء مجازر معتمدة قادرة على تلبية احتياجات الاستهلاك المحلي.
ويؤكد الخبراء على ضرورة سن قوانين صارمة لتقييد الجزر العشوائي وتوفير بدائل رسميَّة للمواطنين.
د. محمد صباح داود يدعو إلى تشكيل لجان مشتركة بين وزارتي الصحة والزراعة والبيئة لمتابعة الحالات وتطبيق القوانين بشكل صارم.
وتبقى الحلول الممكنة بتوفير بنية تحتية صحية ملائمة للمجازر، وتنفيذ قوانين صارمة لمكافحة الذبح العشوائي، فضلا عن تكثيف حملات التوعية للمواطنين حول مخاطر هذه الظاهرة. فالجهود الحكومية المشتركة، والوعي المجتمعي، كفيلان بالتخلّص من الآثار الصحيّة والبيئيّة لهذه الظاهرة المتفاقمة.