علي المرهج
الدولة في العصر الحديث هي التي ينبغي أن تحتكر العُنف، أما في الدولة التي تُهيمن عليها الجماعات التي تخضع لقيم الأعراف، ستتوزع إدارة العُنف، الأمر الذي يُؤدي إلى تشظية الهوية الوطنية ويُمهّد لنهايتها. يشتغل بورديو على ما أطلق عليه أنظمة الاستعدادات “Habitus” وهو نظام شبيه بما صاغته نُظم الأعراف القبلية بل وحتى نُظم الدولة الحديثة، وهو نظام تصنعه الجماعات صاحبة القرار والمُهيمنة على “المجال السياسي” و “المجال الاجتماعي” بحُكم فاعليتها وامتلاكها لـ “رأس المال” الرمزي / الثقافي، ورأس المال/ الاقتصادي بما يُمكنها من بلورة خطاب سوسيو سياسي، وسوسيو ثقافي يمتلك كل مُمكنات تغيير الخطاب السائد لانتاج خطاب رمزي جديد يُكرّس هيمنة الأغلبية المُجتمعية لهؤلاء “الفاعلين السياسيين” أو “الفاعلين الاجتماعيين”.
يرى بورديو أن نظام الاستعدادات هذا “Habitus” يسمح بخلق استراتيجيات ومواقف تجعل الفرد أسيراً له، ولا تجديد لأفكاره إلّا وفقاً لهذا النظام. بهذا المعنى تكون الذات حاضرة بمقدار توافقها مع نظام الاستعدادات هذا، لذا نجد أنّ الإنسان في المُجتمع الذي تُسيره الأعراف حاضرٌ بفعله وتأثيره بقدر توافقه مع هذا النظام العلائقي، فهو فرد مُنخرط في منظومة الجماعة التي هو جزء منه. ومع اختلاف طبيعة وشكل نظام الاستعدادات في الدولة الحديثة وتنافس الأحزاب في العملية الانتخابية إلّا أن هذا النظام لا يختفي بل يجد حضوره في التبني الأيديولوجي لجماعة واختلافها في التبني الأيديولوجي عند جماعة أخرى مُنافسة لها في فضاء الديموقراطية ومُتطلبات العملية الانتخابية، وكأن بورديو يذهب إلى القول إنّ كلّاً منَّا يشبه “البرغي” وله دور داخل آلة الانتماء الأيديولوجي الذي حطَّ رحاله فيه، يُسيره “الفاعلون” في صياغة أفكار ورؤى هذه الجماعة التي يُسيرها نظام الاستعدادات “Habitus”.
إنّ ما هو جمعي يتمثّل بما هو فردي، فلا فاعلية حقيقية بحسب (دوركهايم) لما هو شعوري (فردي) أو ذاتي، إنما “العقل الجمعي” هو الذي يحكم تصوراتنا الفرديّة، وهو ما أسماه (غوستاف لوبون) “الجمهور النفسي” الذي تُحرّكه “الروح الجماعيّة”. لخرق نظام الاستعدادات هذا ستضطر جماعة مُغايرة للعمل على خلق نظام استعدادات آخر يخترق النظام القديم ويستجيب لمُتطلبات مُتغيرات النظام الاجتماعي الدولي الجديد، وهذا الأمر شبيه بما اقترحه (توماس كون) بما أسماه “البراديغم” وهو نظام أبستيمي معرفي تقتضيه مُتغيرات المرحلة العلمية الجديدة لتقويض النظام المعرفي السائد أو ما أسماه هو “Normal Science” “الأنموذج الارشادي” أو “السوَي، وهو نظام معرفي هيمن في مرحلة زمنية سابقة، بمعنى أن ما طُرح فيه من نظرية علمية هي الأفضل من كُلّ مُنافساتها، لذا وجبَ القبول بها والاسترشاد بمُعطياتها..
بسبب مُتغيرات وجهة النظر العلمية وسعي بعض العُلماء لايجاد نظرية علمية جديدة تُجيب عن بعض التساؤلات التي لا إجابة عنها في النظرية العلمية القديمة تبدأ النزاعات بين أصحاب النظريتين، القديمة (السائدة) والجديدة (المُستحدثة) وبعد أن يتمكن أصحاب النظرية الجديدة من تأكيد نتائج نظريتهم يبدأ المُجتمع العلمي وحتى المجتمع العام بزحزحة النظرية التقليدية لتحل محلها النظرية الجديدة، لأنّ القديمة لم تعدَ تفي بحاجات المُجتمع الجديد أو لم تعد صالحة لفهم مُتغيرات وتطورات العالم الجديد لذلك يحتاج لنظام بديل يحلُّ محل القديم الذي اعتدنا على الوثوق به هو “براديغم” جديد أسماه “العلم الثوري” “Abnormal Science”، (العلم الشاذ) أو “العلم الثوري”، وبعد صراع بين “البراديغم الجديد” والقديم يتم قبول الجديد بتحول تدريجي، وذلك ما تؤكده تحولات الأنموذج العلمي في مرحلة ليتجاوز الأنموذج العلمي السائد في المرحلة السابقة، ولا أدلَّ على ذلك من تحول نمذج العلم من من النظرية (البطليموسية إلى النظرية الكوبرنيكوسية)، ومن فيزياء (نيوتن) إلى نسبية (أينشتين) وبعدها إلى قبول “(ميكانيكا الكم)، وصولاً لقبول ما جاءت به نظريات (الجينوم) و(الأنفوميديا).
يرى بورديو أن مهمة النظام الفكري الجديد “هي مواجهة المُعتقدات المُهيمنة للنظام الفكري القائم”. وذلك بالعمل على دفع الناس الى التخلي عن هذا النظام القديم عبر تجديد الرؤية والسعي لبناء “نظام فكري جديد” يأخذ شرعيته من نضال الجماعة الجديدة التي تجتهد لنيل القبول المُجتمعي والاعتراف الجماعي من مُعظم أفراد المُجتمع عبر صياغتها لرؤى وشعارات ذات حمولة رمزية تُداعب قيم المُجتمع وتستنهضها بلغة لها من “الرأسمال الرمزي” ما يجعل لها مقبولية لا تقويض فيها لما هو سائد من الأعراف والتقاليد، إنما هي إعادة انتاج لها بما يُظهرها على أنها مفاهيم تكتنز في مدلولاتها مضامين تُمكّن أصحابها من ايجاد تفسيرات وتأويلات جديدة تمنحها القدرة على الاستجابة لمُتغيرات الحال والأحوال بما يُثبت عدم خروج أصحابها عن مرامي ومُضمرات الخطاب العُرفي الموروث لنيل المقبولية والوثوق بنهجهم الجديد بوصفه اعادة انتاج لهوية الجماعة أو المُجتمع الذين هم يرومون التأثير به بكونهم “فاعلين” بإيهام الجماعة التي يُظهرون أنفسهم على أنهم يُناضلون من أجلها على أن خطابهم الجديد هذا ليس الغرض منه تقويض قيم المجتمع القديم بالكامل إنما هي رؤية تجديدية لادامة وجودهم ونظامهم القيمي باستحداث لغة سوسيوثقافية مُختلفة من حيث التعبير وأساليبه ولكنها ليست مُخالفة لمُتبنياتهم الموروثة أو السائدة.
من ميزات الفاعل السياسي أو صاحب القرار الأمثل أنه قادر على معرفة “نفسية الجماهير” بكونها هي التي تُشكل “الضمير الجمعي” بعبارة (دوركهايم) الذي يتحرك الأفراد في فضائه ويقود تصرفاتهم.
إنّه إيهام اللغة أو ما أسميه “تدوير المفاهيم” بحسب مُضمرات تعدد تأويلاتها الدلالية المُتاحة بحسب فضاء تداولها في اللغة التي نشأت فيها.