التّجارة في المَعْبَد ومابعد...

ثقافة 2019/07/01
...

ياسين طه حافظ
 
يبدو أنّنا مولعون بالكتمان او بعدم الكشف. ربما خشية إفساد أمورنا وربما نريد أن نظهر بغير حقيقتنا. إذاً ثمة هاجس بأنّ خطأ ما كامن فيما نعمل، فنحن نحذر أن تعلم به كلّ الناس والأفضل ان يبقى ضمن دائرة  العمل ومن يشاركوننا المكان والأفعال.
وهكذا ظلّت “المتاجرة” و “التجارة”  خجلة مرة ووراء حجاب مرة ثمّ التظاهر معها بالتقى او بالسعي وراء الرزق او هم على “باب الله”..
في مكّة كانوا ضمن ما يقومون به من شعائر ولقاءات، يتبادلون  سلعاً و “يعملون” تجارة، قبل مكّة كانت في المعبد تجارة او باعة. كان المعبد سوقاً ايضاً. والمدن المقدّسة عموماً حتى اليوم، هي مدن تجارية ايضاً وقد تقصد لهذا الغرض كما تقصد للتبرّك والعبادة.
وصحن الكنيسة، كما يقول  “ممفورد” صاحب “المدينة على مر العصور” ، “هو المكان الخالي من الزخرف والمخصص للاجتماع كما هو المعبد البابلي. لكنّه تحول الى سوق للاوراق المالية ولا تتخيلوا أنّ هذه الموازنة مزيّفة، ففي القرن السابع عشر كان السماسرة يمارسون حرفتهم في صحن كنيسة سانت بول. ولم يبقَ أمام  صيارفة النقود سوى أن يطردوا ممثلي السيد المسيح من المعبد..  الى أن تفاقمت الحال في النهاية وبلغ الفساد حدّاً تجاوز ما  تطيق احتماله كنيسة فاسدة آنذاك...”
ونحن  نعلمُ بأنّ عدداً من  مدننا العراقية عدا العاصمة، فيها مواقع او ساحات خارج المركز قليلاً،  يأتي لها الفلاحون واصحاب السلع في  يوم من الاسبوع لعرض ما عندهم، كنت أشهد هذا يوم الاربعاء في بعقوبة كلّ أسبوع، وشهدت مثل هذا بما يُسمّى يوم الاحد في لندن وشهدت هذا في قرى اوكرانيا، يوم الاحد يأتي الفلاحون وناس القرى كلّ بما انتجه، عسلاً، جبناً، ثماراً، بيضاً... والناس ينتظرون هذا اليوم عادةً لمميزات ما يجدون وربما بعداً عن المدينة والمصنعات الميكانية فهم يقتربون من الطبيعة والأفضل.
هناك في المدن تزاحم وتدافع وغشّ ونحن نريد هدوءاً وراحة، وظلّاً، انسانية نعيش برحمتها، او بمحبتها... هنا الناس اكثر براءة واقل احتيالاً، فما زالوا أبناء “ريف” وزرع. 
ولقد تصدى لظاهرة تجاوز الحدود الانسانية المقبولة في التجارة والربح شكسبير في تاجر البندقيَّة. وتصدى لها الرسام  طافح بالشفقة والانسانية رامبرانت بلوحات نأت عن مطالب واساطين النقابة المتحكّمين. خطورة هذه المسألة، مسألة التجارة في المعبد والكنيسة والمتاجرة من بعد في الكتاب المقدّس والأدعيّة، جعلتنا امام انحرافات خطيرة وصلتنا آثارها.. فالحاكم المطلق بسبب تكدّس الذهب لديه، وبموجب الحق الإلهي، اغتصب مكان الله وادّعى لنفسه ما لله من  إجلال. وعرفنا ملوكاً صاروا آلهة قبل الميلاد وعرفنا “الملك الشمس”  “منتحلاً لنفسه الصفة الخرافيّة التي اتّسم بها الفراعنة ومن بعد  الاسكندر الاكبر، وعرفنا في زماننا حكاماً وصفوا باصطفاء الله لهم، وان واحدهم مصدر السعادة على حاشيته ومن حوله لأنّهم في  نعمائه، تماماً كما كانت رؤية الله مصدر سعادة للقديسين..
لكن لماذا التستّر على  العقل “التجاري والتحفّظ من ذكره او ممارسته أحياناً؟ نحن نعلم ان شكسبير جعل الفضّة رمزاً للتجارة ورمزاً للحذر. فهي ليست ذهباً ثمينا وليست حديداً نافعاً هي فضّة بمعنى نقد وبمعنى ربح على حساب خسارة والادانة واضحة.
طبعاً أي عمل تجاري إنّما يتمُّ من أجل الربح ونادراً ما تجيء الأرباح مصحوبة بالتقى .. هي تعتمد الاحتراف والذكاء، بمعنى القدرة على الحصول بسعر أقل والبيع بسعر  أكثر. وهذه الزيادة في الأكثر إنّما تأتي من المحتاجين لها والذين قد يؤخذ منهم أكثر مما يجب او تضطرهم الحاجة للقبول بفاحش السعر. ثمّة استغلال لا بدَّ منه،  كبر او صغر ولكنّه موجود ووراءه، لدى المقابل غبن او حرج او قهر.
العصر لا يحتمل أقوالنا. فنحن ما نزال أقرب الى الريف من المدينة وأقرب الى المعبد والكنيسة مما للبنوك والمصارف، واننا، كما يبدو، لا نريد أن نفهم الحياة  فهماً واقعيّاً. ربما تتمنى أن تكون أفضل وعلى غير هذا. لكنّها نيّات طيبة لايسمح بها عالم جديد صاخب نفعي..
سؤالٌ يعترضني في مناسبة وأخرى: من أين للملوك القدامى والخلفاء والسلاطين كلّ هذا الذهب؟ أكيد من التجارة أصلاً، من أرباح تكدّست وتحوّلت ذهباً، فأخذ الحاكم بالرغم “الجميل” حصّته!، ذلك ربح بغلبة او خدعة، وهذا أخذ بالرغم او بتشجيع لكسب المزيد. وحتى ان كانت من بلدان أخرى وحكامها المغلوبين، فهو هذا مصدره واستبعد ان تكون حصاد زرع او صناعة ... لعلَّ لكراهة التجارة وكونها إدانة احياناً وسُبَّة احياناً، وعملاً مشروعاً على وفق  قوانين اليوم... ، لعلّ وراء هذا أنّها كسب من آخر وغالباً كسب من ضرورات او من حاجة ولا مفر. والقول في عصرنا أنَّ المبالغ التي تنفق على  جيش وأثمان أسلحة هي من دافعي الضرائب، تعني إرغاماً لهؤلاء وهؤلاء أرغموا غيرهم على الشراء بأسعار تعطيهم  فوائد “او ربحاً أكثر مما يمكن ان يكون لو لم يدفعوا... كل ربح “مشروع”  لأحد على حساب  خسارة “مشروعه” لأحد! 
مهما يكن فقد أغلقت أبواب المعابد وساحات الكنائس، أولاً لتناقص من يأتونها، ثانياً وهو خاتمة المقال:
أنّ للتجارة  صارت عمارات ضخمة ومؤسسات تحتل مراكز المدن  وحتى الآن ثمّة من ينظر للمصرف بشراهة ولهفة ومن ينظر له بغضب!