{روشيرو}

ثقافة 2019/07/01
...

  مهدي القريشي
 
     
في حالات القحط أو اليباب تختصر الأشياء الى ما دونها. وهذا ما فعله  القاص حسين رشيد الذي اختصر تاريخ القحط، بمشهد لبلد مدمّر وانسان محطّم وبناء مجتمعي مهدّم وجسور لا تصل الى ضفة وإشكاليات تبتدأ ولا تنتهي، في كلمة واحدة هي (روشيرو) و160 صفحة.
هذه الكلمة الساحرة التي لم اجد لها معنى في قواميس اللغة العربية فوجدتها في قاموس حسين رشيد السردي للقصة القصيرة جداً. 
فهي ينبوع وعي واحاسيس وتفاعلات مع الواقع والفنطازيا والمهمل والهامشي والتابوهات .. فيحيلنا الى عوالم سحرية وخلابة مع الذَكر  في هيجانه والأنثى في تمرّدها على نفسها والمجتمع، فالكاتب يستدعي ام مصطفى ونوال وأم كرار ونجلة ونهلة ليقيم احتفاليته مع الجنس، انها اللعبة الذكية للقاص التي تخطى فيها الكثير مما اكتنزته اقلام الأسلاف وراوغ مجايليه بتوجهاته الحسية وطريقة القص المغاير وتقنياتها المتنوعة واستدراج النصوص الى منطقة الشعر كون القصة القصيرة جداً قرينة الشعر، والمفارقة سيدة الومضة، والتكثيف سمتهما، والسلاسة من مقومات ما بعد الحداثة فلا غموض ولا إبهام، فقط تشكيل بمهارة فنان بعيدة عن الغلو في اللفظ قريبة من الوضوح في المعنى جرأة في الطرح خاصة مع التابوهات وأنسنة الأشياء. 
انغمست روشيرو في لعبة التجريب في القص وما المتواليات القصصية (فلمسيوس، شيمكور، وطنيوسو، رايندال، الرب، جسد، الرئيس، تك تك تك) والمبوبة تحت عنوان (تحدث معك/ثلاثيات) ما هو الا الدخول في المنطقة الشائكة. ان هذا التجريب والمغامرة في عالم المتواليات القصصية التي خاض غمارها القاص حسين رشيد في روشيرو  والتي افرد لها فصلاً كاملاً وان ابرز  ما يبنى  عليه هذا النوع من القص هو (المكان) أي أنّها تحدث في مكان واحد كما في (حكايات حارتنا) لنجيب محفوظ، كما جاء في كتابات الدكتور ثائر العذاري عن  بنى المتوالية القصصية ويضيف العذاري أيضاً لمتبنيات المتوالية القصصية ان تركز على (شيء) واحد كما فعل الكاتب الكويتي طالب الرفاعي في متوالية (الكرسي) كذلك تبنى على زاوية نظر واحدة وشخصية واحدة. 
لم تحتل مفردة الموت في قاموس الفرد العراقي كضيف طارئ بل صارت احدى مقتنيات حديثه اليومي والاجرائي، لهذا كان التوظيف في قصص روشيرو انسيابيّاً وسهلاً لتنوع تجلياته، وما كان لتذكر من اجل زيادة وقع اثر الفجيعة والألم في نفوس العراقيين بل لانها تمنح القصة ضربة صادمة ومحفزة لإعادة انتاج النص بتأنٍ لاستكشاف أسراره وخفاياه ونواياه الزئبقية، فبالاعادة يسترجع المتلقي كل تاريخه ويجعل من تأملاته انعكاساً لبطل القصة وقد يكون قرينة، وهذا ما تبناه القاص بتلاعبه بتنوعات موت ابطاله، فمنهم من مات ميتة تتساوق مع رعشة جنسية عابرة وأخرى في مقبرة بين الأموات، الأموات الذين بمجسّاتهم الانسانية أكثر حدساً وخبرة من الأحياء في تمييز الانسان المسالم من المجرم الإرهابي، ومنهم من قتلته تكتكة الساعات الكاذبة، هكذ طرق بشعة للموت لا تحدث الا في العراق، ولم تتباهَ روشيرو في اعادة صور المأساة من اجل خلق اجواء  سوداوية او نشر الحزن والتشاؤم وزرع الرعب في نفوس الناس بقدر ما تصور الواقع العراقي المزري بصوره المتنوعة والمفضية الى الخراب بعدسة القاص المنحازة للسخرية السوداء وادانة لمرتكبيها وفضح أساليب الإرهابيين وأخلاقياتهم المعادية للإنسانية والمتواطئة مع الجبن والخسة والقذارة .
اذاً ما هي روشيرو، من وجهة نظرنا هي تاريخ بلاد جرّها الغرباء الى الدمار والخراب، اما من وجهة نظر متبنيها انها ظبية بضّة .. روشيرو أميرة إغريقية تلمذتها آلة الحب والجمال وزيّنتها حكايات ملوك الروم والفرس، لكن المغول اغتصبوها، وهي دمعة سقطت من جرف الكون وأسقطت معها بعض شعيرات من رموش عين الرب لتجري الأنهار منها، هي حكاية من غير بداية ولا نهاية وكأس خمرة وعهر رجال، روشيرو أكفان ونساء وأعلام وسيارات وصبيان وأيتام وعرائض وأكاذيب وفتاوى، روشيرو فرط رمان وعسل تمر ذهبي وكرة قدم وألعاب شعبية وبلي استيشن وأول أغنية عشق رددتها الذاكرة (يا عشكنا)، وروشيرو رفعة العلم في يوم الخميس وكيف مزّقته الاطلاقات، ويوم سجن طلاب الصف الخامس الابتدائي يوماً كاملاً في صفهم حين اسقط أحد الطلاب صورة القائد الضرورة بكتاب التربية الاسلامية. 
لم يغادر الجمال روشيرو رغم القُبح المترسّب حيناً والطافح حيناً، فيعالجها بالكلمات والصور والاحاسيس والمخيلات، يقتحم كهوف الظلام ليشعل شمعة او يزرع وردة في بابه او ينفخ من روحه اوكسجين الحياة، يغري القبح فيلبسه الجمال حلته الزاهية، يفضح الجُبن فتتدفق الشجاعة، يرفع الغطاء عن المستور ويقدم الهامشي الى المتن وتعزف له روشيرو من نايها المصنوع من قصب الأهوار، تمتزج قصصها مع الميثولوجيا فتحيي تاريخا مهملا، تتحدث عن فحولة كاتبها ومغامراته العاطفية ليس من اجل المتعة الجنسيّة بقدر ما تفتح تاريخ نساء حرائر دمّرهنَّ العوز في بلد
الخير.