غزة.. مجتمع إنساني تحوَّل إلى مقبرة
إيشان ثرور
ترجمة: أنيس الصفار
قبل إعلان فوزه في الانتخابات، تحدث الرئيس الأميركي المنتخب "دونالد ترامب" إلى "بنيامين نتانياهو" فقال له أن يفعل كل ما يتوجب فعله لإنهاء المهمة في الشرق الأوسط. ووفقاً لمصادر حزب نتنياهو فإن الرئيس الأميركي المنتخب كان قد تعهَّد خلال فترة حملته الانتخابية باستعادة ما وصفه بـ"السلام" في المنطقة.
وقال إنه يريد من الكيان الصهيوني الانتهاء بسرعة من أهدافه العسكرية التي تشمل قطاع غزة ولبنان قبل موعد تنصيبه رئيساً بحلول شهر كانون الثاني المقبل. بَيْد أن ترامب، الذي أنعم في دورته الأولى على نتانياهو وحلفائه المنتمين لليمين في الكنيست بالعديد من العطايا السياسية، لم يقدم أي إيضاح علني كيف يجب أن تنهى تلك الحروب برأيه.
إلا أن نتانياهو، الذي نحّى وزير دفاعه خلال الأسابيع الماضية لصالح أحد مواليه المطيعين، لا يبدو عابئاً بالانتظار إلى أن يعلم. فعلى مدى الفترة السابقة لتطبيق وقف إطلاق النار مع حزب الله واصلت القوات الصهيوينة ضغوطها فدكت أهدافاً تشمل كلاً من غزة ولبنان بالطائرات، بينما راحت تلك القوات تستعد لتوسيع هجومها البرّي على جنوب لبنان ضمن محاولاتها لإضعاف التواجد العسكري لحزب الله. وعمدت تلك القوات خلال هذه العملية إلى تسوية بلدات وقرى بالأرض وتهجير ربع السكان اللبنانيين تقريباً من مناطقهم، ولم تتوقف الآليات العسكرية عن سياسة الهدم حتى توقفت الحرب في جنوب لبنان.
شمال غزة يعاني المجاعة
أما غزة التي تعاني مزيداً من الضغوط العسكرية التي تفرضها تل أبيب على الأجزاء الشمالية المدمَّرة من القطاع. فهناك نحو 100 ألف إنسان ما زالوا يحاولون التشبَّث بالحياة وهم لا يملكون منفذاً للحصول على إمدادات غذائية أو طبية جديدة بعد أن أوقفت القوات الصهيونية كما يبدو دخول المساعدات الجديدة القادمة من المعابر الحدودية ضمن محاولاتها للقضاء على خلايا حركة حماس التي لا تزال تعمل على شكل جيوب هناك. وقد حذَّرت لجنة مراجعة المجاعة التابعة للأمم المتحدة مطلع الشهر الحالي من وجود احتمال قوي بأن مجاعة توشك أن تحدث شمال غزة والمناطق القريبة منها. كتبت لجنة خبراء الأمم المتحدة بهذا الشأن: "بناء على ذلك فإن احتمالات قرب وقوع مجاعة وسوء تغذية مصحوبتين بمزيد من الوفيات جرَّاء سوء التغذية والمرض آخذة بالتصاعد سريعاً في هذه المناطق".
يرسم عمال الإغاثة ومسؤولو الأمم المتحدة صورة يتجسد فيها الدمار كاملاً لعموم أراضي قطاع غزة. فقد نشرت "لويز واتريدج" المتحدثة باسم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين "أونروا" مقطع فديو لجولة بالسيارة قامت بها حول أجزاء من شمال غزة ظهرت فيها مشاهد لا نهاية لها كأنها صوِّرت على سطح القمر لمبان مدمرة وحفر وشوارع مهجورة يتناثر فيها الحطام. كتبت واتريدج عبر شبكة الأنترنيت تقول: "ما من وسيلة هناك يعرف بها المرء أين يبتدئ الدمار وأين ينتهي، فمن أي اتجاه تدخل مدينة غزة سترى منازل ومستشفيات ومدارس وعيادات صحية ومساجد وشققاً ومطاعم قد سوِّيت كلها بالأرض تماماً. إنه مجتمع تحول بأكمله إلى مقبرة".
لا يزال حجم الثمن البشري المذهل لنحو خمسة عشر شهراً من الحرب قيد الحساب، وقد توصل تقرير لتحليل ضحايا قطاع غزة نشر نتائجه مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مطلع الشهر الحالي إلى أن نحو 70 بالمئة من الضحايا الذين سقطوا في غزة منذ 7 تشرين الأول 2023 كانوا من النساء والأطفال. وتراوحت الأعمار التي تشكل النسبة الأعظم تمثيلاً بين الضحايا من خمس إلى تسع سنوات. علماً أن ثمانين بالمئة من القتلى قضوا نحبهم تحت المباني السكنية أو داخل بيوتهم، الأمر الذي عزَّز صدق الادعاءات بأن إسرائيل كانت تمارس حملتها ضد الفلسطينيين عشوائياً وبلا تمييز.
يقول "فولكر ترك" المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة عبر بيان له: "توضح أجهزتنا الرقابية أن هذا المستوى غير المسبوق من القتل والإصابات بين المدنيين إنما جاء نتيجة مباشرة لعدم الالتزام بالمبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي".
إلا أن المسؤولين في حكومة بنيامين نتنياهو كانوا ينفون مراراً مثل هذه الاتهامات ويدعون أن سلوك حكومتهم منسجم مع القانون الدولي وأن ما حدث كان من تبعات تغلغل حركة حماس داخل كل ركن من المجتمع الغزّي!. ومن الطبيعي أن تبريراتهم هذه كانت دائماً تعبر عن ما يتلقونه من الدعم إلى حدٍّ كبير من إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن التي واضبت بثبات على حماية سياسة نتنياهو من الانتقادات الدولية.
مهلة أميركية
على الرغم من ذلك تواجه تل أبيب خلال الأيام التالية مهلة نهائية فرضتها عليها الولايات المتحدة لتحسين منافذ مرور المعونات الإنسانية إلى غزة وبعكس ذلك فقد تواجه قيوداً محتملة على المساعدات العسكرية الأميركية. قد تكون هذه هي المرة الأولى التي تفرض فيها إدارة بايدن بالفعل قوانين أميركية تضع شروطاً على المساعدات العسكرية لدول أجنبية.
تجاوباً مع هذا الضغط الأميركي أعلن مسؤولون في حكومة نتنياهو أنها بصدد فتح معبر جديد للدخول إلى جنوب غزة، لكن المنظمات الإنسانية سبق أن حذرت مراراً من أن عبور مثل هذه المساعدات إلى مناطق شمال غزة غالباً ما يتعرض للعوائق بسبب العمليات العسكرية إلى جانب انهيار جميع صور القانون والنظام في تلك المنطقة.
وبغضِّ النظر عن سياسة الولايات المتحدة في انتظار تغيُّر يُذكر على الأرض فإن الرئيس الأميركي المنتخب ترامب قد يمضي رغم ذلك في إلغاء أي قيود مفروضة على المساعدات العسكرية الأميركية للكيان اليهودي بمجرد توليه المنصب. لهذا السبب هلّل نتانياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف في الكنيست فرحاً بانتخاب ترامب لعلمهم أن الرئيس الأميركي المقبل سيكون أقرب إلى منحهم من جديد صكاً على بياض للمضي في أجندتهم الشاملة. يشعر المحللون بالارتياب من أن نتانياهو ربما سيقاوم الانصياع بشكل رسمي لوقف إطلاق النار على أيٍّ من جبهات الحرب لحين تسلُّم ترامب السلطة، وهو تحرك سيعطي الرئيس القادم نصراً رمزياً ويحرم سلفه منه.
تحدث مصدر ذو معرفة بأسلوب تفكير مجموعة نتنياهو إلى صحيفة "فايننشيال تايمز" فقال: "ثمة فهم مشترك بين نتانياهو وترامب بأن يعملا معاً على إنهاء الحروب." وفي إشارة إلى أن أي اختراق دبلوماسي سوف يصبح ممكناً بعد تنصيب ترامب يمضي المصدر مبيناً: "يريد نتانياهو مساعدة ترامب على تحقيق هذا الإنجاز. لم يُعطِ تعهداً صريحاً بذلك ولكن مضمون الفكرة هو إرجاء التحركات المهمة من أي شكل بخصوص وضع قطاع غزة حتى حلول العشرين من كانون الثاني المقبل".
حتى ذلك الحين ستستمر الفاجعة تدمِّر القطاع وتصيب الحياة فيه بالتردّي. ويشير بعض المسؤولين الصهاينة إلى أن سكان مناطق معينة في شمال غزة لن يسمح لهم بالعودة، الأمر الذي يعزز بدليل إضافي ادعاءات الجماعات الحقوقية والمنظمات الإنسانية بأن هذا الكيان ربما يكون بصدد تنفيذ عملية تطهير عرقي فعلية شمال قطاع غزة.
الأحوال هناك بوضعها الراهن لم يعد بالإمكان تحملها. ففي الأسبوع الماضي قام "يان إيغلاند"، وهو دبلوماسي نرويجي سابق يشغل حالياً منصب رئيس المجلس النرويجي للاجئين، بجولة في المنطقة المذكورة، ويصف الوضع في الأجزاء الشمالية والوسطى من غزة بأنه "أسوأ من أي شيء يمكن أن يتخيله، وهو الذي عمل طويلاً كعامل إغاثة"، على حدِّ تعبيره.
يضيف إيغلاند في بيانه: "ما رأيت وسمعت في شمال غزة هو منطقة يقاسي أهلها ضغوطاً تجاوزت حدود الانهيار. عائلات تمزقت وتفرقت عن بعضها .. رجال وفتيان يعتقلون ويعزلون عن أحبائهم .. وعائلات لا تتمكن حتى من دفن موتاها. بعضهم قضوا أياماً متواصلة بلا طعام، والماء الصالح للشرب لم يعد له وجود .. مشاهد تلو مشاهد تجسد معاني اليأس المطلق".
تحدث سعيد كيلاني، وهو من سكان شمال غزة، إلى بعض الزملاء الصحفيين فقال إن العثور على الطعام أصبح مستحيلاً والماء شديد الملوحة لا يصلح حتى لأن يشربه حيوان أو يسقى به نبات، رغم ذلك لا خيار أمام السكان إلا أن يشربوه. يضيف كيلاني: "خلال الغزو الأولي للمنطقة كنا نقتات على الأعشاب، أما الآن فحتى هذه لم يعد لها وجود".
عن صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية