ياسين طه حافظ
هل ستكون الحضارة ضحية أم تكون المستفيدة مما يجري في العالم وبين الدول- أو "القوى"؟ وعلى وفق أي نظرية؟ أم تراها ستقوم أساساً على إحداث الفوضى ثم ينتهي كل شيء إلى دخان وحرائق؟ لعلنا توسعنا فيما نقصده أو اخرجنا السؤال إلى مدى أوسع مما كان يرمي إليها فنقول: لماذا الثأر من، لماذا الانتقام لما سبق، ولماذا كسر العارضة الأخلاقية- أو السياسية لتحقيق جديد نريده؟ الأفراد أحياناً يثأرون لضررهم أو لمحق إرادة سواهم فهم ينتقمون من خصومهم لإنهائهم أو لتجريدهم من قوة الفعل والإضرار. وقد يطرد الواحد خصمه، أو عدوه، ولا يكتفي بقتله فيطارد ذريته أو سلالته.
كان هذا يقع بين الملوك والاقطاعيين، كما بين الابسط من الناس والأقل قوة أو ثراء، كل يدافع عن "خاص" أو "ملكية" أو ينهي تنافساً أو يحقق تنفيذ وصية، أو يثأر. يحصل هذا بين الدول، ويحصل بين الأديان والحضارات. قبل مواصلة الحديث لابد لنا من الالتفات إلى محور الكلام واستحضار عادات وممارسات قديمة أو مستحدثة، أو لابد من أن نشير لما يجري في أيامنا وما نشهده من تحالفات أو من حروب وقتل وتخريب مدن. لابد لنا من توظيف جانب، "بعض"، من الحضارة لانجاز ما هو غير حضاري! وليس هذا غريباً فهو أساساً "فورة" أجزاء من حضارة، أو هي أحداث مدفونة، تستعيد نشاطها فتتفجر، أو تستعيد ما استُلب منها أو ما تطمع من زمن فيه من، وفى، حضارة اخرى. صراع الاديان مثلاً، وإن كان تحت راية الله هو صراع دنيوي، صراع جزء من هذه الحضارة ضد بعضٍ من تلك. ومن هذا الصراعات القومية أيضاً. ثمة ممارسة لقوة تعود لحقبة قديمة ضد ممارسة لقوة عائدة. وهذه الأخيرة ستدهشك قوة فعلها وتستغرب سعته، لأنها شُحِنَتْ بأهداف أخرى معاصرة وجديدة تماماً. صارت هذه وسائل لغايات تطلبّها التطور الاقتصادي. اثارها، فهل بعض أحداث اليوم انتقام مما كان أم طمع فيما يجيء؟
غالباً لا دائماً، القوة القديمة تصطدم بالحديثة، والعكس وارد أيضاً. وهذا يعني أيضاً المألوف من "المستغرَب" إذ تتوسع قوته في احتلالها وحضورها. بعضها يتأسس على التجريب، تجريب القوة والسلاح الجديد في التنفيذ. محاولة جهنمية لإثبات القدرة على التدمير وإلاخضاع. للقيم القديمة دائماً احتجاج ولعوام الشعوب دائماً احتجاج. ولكنه ضد التقدم وهنا سلبيته. هو قول يجب ألاّ يفوتنا.
الغريب أن الدول الداخلة في حرب اليوم، تدخلها لفتح طريق للحداثة. قد يكون هذا ادعاءً، ولكنه الشعار المعلن وأنه العنوان! وسائل قديمة، تصحب الأهداف الجديدة وكلاهما في مضمون الحداثة والتحديث.
وكما ترون في هذا الكلام إدانة واضحة لمفهومنا وسلوكنا- الموصوف بالحضاري. هو دون ذلك، ولا يزال في تماس مع التخلف ويستعين بمضامينه.
مفيد أن نذكر إن لا تحضّر بغير شوائب عالقة. وسواء كان هذا في السلوك والإدارة أم في الأشكال الأدبية واهتمامات أصحابها، أو في الذوق والغايات – الدلالة واضحة لا تخطئ.
إننا نواجه معضلات في تحليل الظاهرة الحضارية بسبب ما تفرزه أوروبا ودول "التقدم الحضاري" مما تطرح من تنافس تجاري فيه تضليل نوعي وما تنسج أو تسبب من خلافات وانقلابات على التحولات الإيجابية لدى الشعوب الأخرى، وكيف تعمل السياسات في النفعي. وإلا فما الذي يدفع لحروب وحشية مدمرة،وحشيتُها تنسف المعنى الباقي للحضارة؟ الشعوب قد تواجه الانتهاك العام والدمار بالأسلحة المتقدمة- التقدم هنا آلة تدمير - وما يحصل اليوم شاهد كبير سيئ. ماذا تقول بحرق مدينة او تدميرها من أجل السلام؟ او تسوية منطقة آهلة بالناس والشجر لتهيئة قاعدة لإطلاق صواريخ؟ او تجفيف منطقة لمرور أرتال عسكرية؟ المشكلة أنك لا تستطيع قبول ما يجري ولكنك لا تستطيع تجريد تلك الأحداث من حقيقة فعلها الإيجابي- ولو بالنسبة لطرف لا للطرفين.
هذه الحيرة في الإجابة عن السؤال أدت إلى أن يعتقد بعض المفكرين بأن الحضارة مسألة غير محسومة المعنى. ويجب الحكم على الحضارة من خلال ما هي. فلا يكفي أن تكون الحضارة حضارة وهي تدمر بشراً ومدناً، بل وحياة. الحضارة فعل حضاري وسلوك حضاري وإلا فلا بد من التساؤل! أيضاً، لن يكون الشيء حضارياً إن لم يكن داخلاً في الحداثة والحداثة بالنسبة لزمنه. فهو على أطراف حال أكثر اكتنازاً بالافضل: مستقبل الحضاري أكثر سعة، وأكثر تقدماً. هذا مقياس جيد لأصالة ذلك الحضاري.
ما يخشى أن شعوباً لا تقدم سلاحاً (أدوات دمار) ولا تمتلك ما يكفي منها، أمام مصيرين، أما الخضوع والاستجابة لنزوع الضد، وأما الائتلاف في المجموعات التابعة. هي ليست سياسة دول حسب لكن تنظيمات وهويات إدارية، وترسيمات حدود. أغطية لما سيأتي! الشعوب في طريقها لتطيع أو لتستجيب لمطالب قوى لها رأس مال وترساته أسلحة. أريد القول، أو أكاد القول بأن العالم في طريقه للخضوع للشركات! والحضارة مسلحة بالنووي وعليك أن تستجيب! وما يبدو جديداً تماماً لم يقطع أواصره كلها بالقديم. أحاول أن اتلمس فروقاً بين التحالفات الاوروبية أو بين الصين وكوريا الشمالية وروسيا، أو بين ولاءات الشرق الاوسط للولايات المتحدة. هي تختلف نعم، وهي تتشابه وولاءات القبائل القديمة، ايضاً! حتى الآن القديم يمسك بخناق الجديد والمساومة واضحة بينهما. ولم يبتعد عن التفاهمات الخداع. من مجموعة الأفكار التي تبنيناها عن كلمة الحضارة توقّفنا عند عارضة صعب تجاوزها، تلك هي أولاً أن الحضارة ليست الثقافة التي يعطفونها عادة على الحضارة. وما تشهد من أفعال التحضر يستند إلى وجه معرفي واحد من وجوه الثقافة- الوجوه الإنسانية الأخرى أما غائبة أو تُنحّى قسراً. ثانياً.. ما الذي يجعل لكلمة الحضارة سحرها ويحفظ كرامتها عند انتصار الفوضى الكامن، أو الانتقام؟ لنراجع التاريخ، الحضارات مناطق وجاهات، يسندها تقدم المعرفة والتقدم الاجتماعي! وهذه المعرفة عادة تزدحم بأفكار متنازعة والتقدم الحضاري متصل دائماً مع الجديد المبتكر.
أما المسافة الفاصلة بين التحديث والانتقام، فمحكومة بخنجر معقوف أو بالنووي. هي منطقة تهديد وفوضى، مثلما هي منطقة صراع لشق طريق للتقدم. منطقة الصراع هذه بالنسبة لنا الآن يمكن أن تكون طريق تقدم لكن الحذر شاخص واضح. فهو قد يكون تقدماً لاكتساح الآخر! وهنا وجب الشك بالجدوى لجميع الأطراف. قد نَفيد ونحقق تقدماً لما يرسمون- ولكن كم حجم وما نوع خسارتنا؟