الجاحظ وديكارت.. بين الأموات الذين يحيون العقول

آراء 2024/12/24
...

 أحمد حسن 

حينما أتنقل يوميًا بين أروقة باريس، بين مبنى السوربون، القلب النابض لجامعة باريس الأولى، وشارع ليل في سان جيرمان الذي يحتضن معهد العلاقات الشرقية "إينالكو"، حيث أشارك في ندوة حول التراث، كان الفكر يصاحبني كما تصاحب الروح الجسد.

قدماي تقوداني، وذاكرتي تهيم بي، فأمرّ على جامعات باريس التي تنتصب كأشجار راسخة في غابة الفكر. عند مغادرتي مبنى السوربون، وفي أول عبور لي على الجهة اليسرى، ألتقي بمبنى جامعة ديكارت، القريب من ساحة أوديون الشهيرة، حيث يلتقي التاريخ بالفن في تناغم فريد.

ثم، أثناء سيري في شارع سان جيرمان، أواجه مبنى مدرسة علوم الاجتماع، وقبلها مبنى "باريس سيتي"، والمقاهي التي تنتشر في كل زاوية، حيث الجدران تتنفس علمًا وتاريخًا، فتتسرب عبر مسامّها روح الفكر الذي يشعّ في أرجاء المدينة. وسط هذا المشهد الغني بالمعرفة، استيقظت في داخلي بغداد، مدينتي التي عُرفت يومًا بـ"دار الحكمة"، فإذا بها اليوم تكاد تغيب عن مسرح الفكر، كأمّ أرهقها الزمن حتى نسيت أسماء أبنائها، وكأنها أضاعت ذاتها وسط صخب الأحداث ومتاهات التاريخ.

في بغداد، حينما كنتُ أعبر من جامعة بغداد نحو شارع أبي نواس، لم يكن في الطريق ما يروي عطش العقل سوى مشاهد الحياة اليومية، وتمثال صامت لشهرزاد وشهريار، يقفان كأطياف من زمن غابر، دون أن أرى أثراً يشير إلى الجاحظ، ذلك العبقري الذي لوّن صفحات التاريخ بأفكاره كما لو كان يرسم لوحة لا نهائية بألوان الفكر. لم أجد الجاحظ، لا في المناهج الدراسية قبل الغزو الأمريكي ولا بعده، وكأنه أُقصي من ذاكرة وطن نسي رموزه.

وفي باريس، حيث يطالعك ديكارت في كل زاوية، وحيث الفلسفة تتنفس من جدران المدينة، تساءلت: لماذا لا أرى الجاحظ؟ أليس هو الآخر عملاقاً من عمالقة العقل؟. أم أننا نحن الذين اختفى من أعيننا، لأننا لم نعد نملك بصراً يخترق السطور، ولا فهماً يعيد إلى الأذهان وهج الفكر الذي كان؟. 

الجاحظ وديكارت، كلاهما أمسك زمام العقل في زمانه، لكنّ ديكارت وجد في فرنسا أرضاً تغذي جذوره، بينما الجاحظ أضحى في العراق شجرة تُركت بلا ماء. ديكارت، الذي قال: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، صنع من الشك منهجاً يبني به المعارف، بينما الجاحظ، بأسلوبه البديع، قال ما يُشبهه في جوهره: "لا تصدّق حتى تعقل، ولا تعقل حتى تجرّب". فهل اختلفا في العبقرية أم في الحظّ الذي حالف أحدهما وأسقط الآخر في غياهب النسيان.

في باريس، حيث المكتبات تشعّ كالقناديل، رأيتُ كتب الجاحظ معروضة بلغات الغرب. كيف لا، وهو الذي أطلق العقل العربي في رحلةٍ نحو اكتشاف الإنسان والطبيعة والمجتمع؟ لكنّ الغصة كانت تلازمني: لماذا يحتفي الغرب بالجاحظ بينما نحن، أبناؤه، قد نسيناه؟ أليس من العار أن نترك إرثه يُجلد بصمت، بينما نقرأ عن ديكارت كأنه الحقيقة المطلقة.

ديكارت، بعبقريته الشكية، قاد الفكر الغربي إلى عصر الأنوار، أما الجاحظ، فقد أراد أن يجعل من العقل مرآة يرى فيها الإنسان نفسه والعالم من حوله. الجاحظ، الذي تفنن في تقديم الأفكار ببلاغة تخطف الألباب، لم يكن فيلسوفاً وحسب، بل كان مؤرخاً للحياة، وعالماً بالنفس، ومحللاً للمجتمع. لكنه، في نظر أبناء بلاده، لم يحظَ بما يستحق من الاحتفاء والتقدير.

ولماذا؟ لأن العراق، الذي أنجب الجاحظ، غمره التاريخ بأحداثه ومآسيه حتى طغت الجراح على الذاكرة، فأنسته كنوزه. في المقابل، صنعت فرنسا من ديكارت رمزًا فلسفيًا وأيقونة معرفية، تحفظ الأجيال إرثه بكل إجلال. ربما لا يكمن الفارق بين العراق وفرنسا في عمق الأفكار، بل في الأحياء الذين يختارون أن يتذكروا ويحيوا إرث موتاهم، أو أولئك الذين يتركونه يندثر في غياهب النسيان.

أيها الجاحظ العظيم، كيف أستطيع أن أجدك في المكتبات الفاخرة هنا، ولا أراك في شوارع بغداد؟ كيف تحتفي بك لغة الغرب، بينما لغتك الأم تُقصيك؟ أليس فيك عبق التاريخ وجموح الفكر الذي نتوق إليه.

إن العراق اليوم بحاجة إلى الجاحظ كما كانت فرنسا بحاجة إلى ديكارت. نحن بحاجة إلى ذلك الشك البنّاء الذي يخلق من الحيرة يقيناً جديداً، وإلى ذلك العقل الذي يرفض الجمود وينطلق نحو الحياة. فالجاحظ، كديكارت، ليس ماضياً ننظر إليه بحسرة، بل مستقبلاً يمكن أن نصنعه إذا ما امتلكنا الشجاعة لإعادة قراءة تراثنا بعقول حرة، وبقلوب تؤمن بأن الفكر أعظم من أن يُحبس بين دفّتي كتاب أو جدران زمن.

الجاحظ يمثل إرثًا فكريًا خالدًا، لكنه يواجه خطر النسيان في موطنه، بينما يجد تقديرًا في الغرب الذي لم يدعه يغيب عن الذاكرة الثقافية. بين ديكارت والجاحظ يظهر درسان مهمان: الفكر العظيم لا يعرف حدود الأوطان، والعقول النيرة لا تموت، بل تبقى حية ما دام هناك من يعيد إحياء تراثها ويمنحها الحياة من جديد.