ياسين طه حافظ
صباح هذا اليوم، تذكرت صباحاً غائماً مثله سنة 1961، وأنا شابٌ يحمل أمر تعيينه مدرِّساً في كربلاء، كربلاء تلك السنوات البعيدة، كربلاء الأزقة الظليلة الرطبة والسوق قدْر متوسطي الحال وقدر الفقراء، والقباب الذهبيَّة والناس القادمين بخِرَقهم أو بلمعان غناهم، والحزن العريق المزمن الذي لا يفارق القرويين الفقراء. واضحاً كان على الآتين من بعيد بؤس الأرض البور واليباس الذي يفتك بهم جيلاً بعد جيل. الحاجات عالقات بالوجوه، الحاجة للشفاء والحاجة للثوب والحذاء ولان يكونوا مثل الناس. يتسرّب أولاء الفقراء القادمون من قرى وبلدات شتى في الأزقة الملتوية وأعينهم للقباب الذهبيَّة يرجون شفاعة ويرجون شفاءً وعونا على بؤس لا ينقطع وأمراض لا تشفى وربما يطلبون من القباب المقدّسة معجزة أن تُبدل جوعهم بخصب وافر ونِعَم.
في هذه البلدة، عفواً تلك، كان رجل معلم أو موظف في دائرة، ينتصر على بؤسه كله بالفكاهة، بالسخرية الصافقة بقوة، أو المدبّبة النافذة. هو ينثرُ حيث يكون نكات ومفارقات. طيب السريرة كان وإن بدا خشناً. هو يشبه كاظم الحجاج الشاعر البصري، وإن كان كاظم جلدا وعظما ولا ثالث بينهما، بينما صاحبنا ممتلئ هماً ولحما واحتجاجا وفكاهات.
الفكاهةُ لدى أولاء متنفَس وخلاص من الحياة التاعسة البائسة التي وجدوا أنفسهم فهم لا يستطيعون، ولا يريدون مفارقتها! هذه هي المحنة. ألِفوا الازقة والناس وتاريخ أولاء الناس وأوجاعهم والافراح الصغيرة التي تأتي صدفة، وتدرك خطأ الطريق، فهي حالما تصل تغادر!
لكن مثل هؤلاء الساخرين وأمثالنا الغاضبين المتجهّمين، لم نجد جميعنا أملاً غير أنّنا هكذا محاطون بالشراسة والشعارات، لا إنسانية الخاتمة، والتي تبدو غاية في الفضيلة واللطف وأنها ستعوض الناس عن افتقاد المحبة. ستعوضهم لكن بالرصاص فهو بديل لهم يحسم الامور!
هكذا كانت حصيلتنا. خطب ونظرات مسامير يابسة وتهديدات لا تكف وهواء السياسيين الخانق الذي نُرغم على استنشاقه بطريقة أو بأخرى.
لكننا، كلٌّ على ألمٍ يغري نفسه بحقيقةِ أن بقيَ القليل وسنشفى وأنّنا نستطيع الاستمرار في العيش والعمل وفي أن يسندنا الله والأولياء والملائكة ببعض العون. والحمد لله على صباح اليوم فإن فلانا مسلحا أو قريبا من المسلحين أو مهما، او سيكون مهما...، ابتسم. وآخر اثنى وأنني سأكون بخير..
لكن من بعد علمت بأنّي لست وحدي في المحنة وان ناسنا ليسوا وحدهم تحت الخطب والرصاص وأخبار الزنازين وانقطاع الخبر.. فقبلنا وجوارنا وفي بلدان أخرى هي تلك الأوجه المتعجرفة المسخ الشائهة حدَّ الفزع لهم جهامة المتسلّطين وحماستهم الشريرة تلك وهي تلك العنصريّة والوطنيّة المسلحة جيداً بالرشاشات والأسلحة الصامتة وأن التعاسة اليومية مثلما تفتك بنا، تفتك بشعوب كثيرة.
فحسناً وجدنا رفاقاً بالبؤس وعلى واحدنا أن يرضى بالشر ويسترضي. ليس هذا حسب ولكن يجب أن يبدو عليك الفرح! وهكذا آخر البؤس، ان وجدنا في اطلالة بعضهم بعض العزاء، فمت على أملٍ بائس جديد.
من دوام القحط، من يباسنا المزمن وجوعنا، رحنا ننبش قمامات التاريخ لعل لمعة، لعل اشارة خير، لعل شيئا لنا بين الآمال والوعود، وحتى انتبهنا لأنفسنا أجيالا شائخة مهدمة واجسادا خاوية تدب للعيادات لشفاء علة فتظهر علة جديدة في الطريق. شيوخ مدمَّرون لا يملكون غير لغة ولغة قد تخاف، أو لتعقّد البؤس والمرض والحاجات وبقايا العمر تعجز عن التعبير وتظلُّ تمتمات. ماذا بعد تنفع اللغة اذا كنت تخاف أن تقول؟
هكذا مرت السنوات، هكذا ولا اسمع الان إلا طقطقة العجلات في الطريق الى سهلٍ رمليٍّ خارج البلدة والناس. وذلك صندوقٌ شائه من خشبٍ يرتحل.
كان زمنا ألِفنا فيه صحبةَ بؤسنا، الاخبار الكاذبة والوعود الكاذبة، وألِفنا الباعة الفقراء ومئات من وجوه الشحاذين وألِفنا العربات بحصان واحد وتلك التي يسحبها بشر، بشرٌ يسحبون العربات، وعرفنا الأسوأ من بشر الارتزاق اليومي من أهل الثقافة والكتاب، المزهوين بهذا والمدركين بعمقٍ لتعاستهم. أولاء المتلامعون بكلمات مسلفنة يجهلها الناس وربما وردت في خبر أو مجلة او التقفتها آذانهم الصقيلة وهم يمرون بأبهة كاذبة، بمظهر طري ولعْق الكلمات المنافقة، ليقتعدوا مقهى بائساً يستمعون لما يتبادلونه من زيف، يُفرحهم ما ليس لهم ما دام مديحا. أجيال تعيش على الكذب. على الكذب والفقر. على الفقر والتظاهر.. ويتاجرون بنا.
ثم يغادرون تجمعاتهم، مستنقعات الكذب وادعاءات البطولة وما سوف يأتي..،
يمشون بزهوٍ حييّ يقلّدون البغايا في مشيتهن بعد نيل الأجور ..
لا أدري من القائل، وربما هو رأيٌ مني ويلجمني الخوف كالعادة عن قول أشياء صحيحة، إن الحياة للاسف، وحياتنا، بل حياة العالم كله، إن الحياة بلا حبكة. وهذا ما تحتاج له كل قصة لتكون متسلسلة ولتدور على معنى.
الفوضى الكبيرة التي نخوضها والتي خضناها بهوس، مندفعين او مخدوعين، او لانْ لا سواها، هي هكذا كانت وهي هكذا اليوم. هي تعاقبنا الان أو تقول لنا، إن الحياة الحقيقية التي خسرتموها جميلة رائعة بتنوعها. ولكن تنظيمات الشر، مجاميع او عصابات الصيادين والسراق ومجانين الحرب والسياسة والاطماع واللا معنى ومرتزقتهم، اضاعوا حياة الناس وابقوا ركامهم واوبئتها وتركوا لنا عديد، عديد الدعاة والخدم. الخوف والتهديدات المعقوفة والتي يشق رصاصها الهواء لنصمت أو نموت، لنشقى بتحمل سوئهم أو نخفى، ظلت دون سؤال: "الى متى"، "الى متى"؟
نحاول من شدة البؤس واليأس، ايجاد فلسفة لفنائنا او لمسخنا، وحتى ننتهي بعصيٍ ونظارات سميكة ونصف سمع!
رشفت قهوتي التي بردت. ذقت طعم حياتي، كما لأتأكد من تلفها، ومسحت جبيني كأن غبارا تساقط على جبهتي، ثم رفعت رأسي كما لأدعو من الله الشفاء، فتذكرت ان الحياة ليست سوءا صِرْفا وليست شراسة وامتهانا وموتا.
فقد كان علماء من بلاد متخاصمة متقاتلة يتعاونون على بحوث في الوراثة وعلم الاحياء ويتعاون آخرون بودٍ ولطف إنساني على أسرار وكشوفات الفيزياء. وكان علماء من أشد البلدان كرها لسواها يهربون أدوية ليشفوا مرضى أسرى لدى بلدانهم! وفي الحياة ناس يكتبون أجمل الأشعار في المحبة وناس يعزفون الموسيقى لجميع الناس في الساحات. وناس يبتهلون للجمال ويتمنون السلام والحياة الرفيهة للجميع. وفي أشد الأوقات شراسة وسوادا كان ناس يتعاونون جموعا لطرد الشر..
أيّها العام الذي يُطْفَأ بعد قليل ضوؤك، حملتَ لنا ما حملت، ورأينا منك ما رأينا، فامضِ الآن، نقول لك وداعاً، ولكن نريد ما هو أفضل منك.