د. أحمد المبرقع
الحرب ليست مجرد صراع على السلطة أو الأرض أو الموارد؛ بل هي ظاهرة إنسانية تحمل في مدياتها بعدا اجتماعيا وثقافيا بالإضافة للمديات السياسية الواضحة فهي تتجاوز إطار العنف والدمار. إنها نقطة التقاء بين القوة والضعف، بين الإرادة الإنسانية الخيرة، وبين إرادة الشر وزرع الخوف. إذا نظرنا إلى الحرب من منظور أنثروبولوجي، نجد أنها ليست مجرد فعل عنفي، بل هي لغة مشتركة وأداة التعبير ووسيلة لفهم الآخر، حتى في أشد اللحظات تناقضا، وهي أيضا تكشف عن عوالم ثقافية دفينة وتبرز طبيعة الإنسان في مواجهة أقسى الظروف. إذا تعمقنا في دراسة الجذور الاجتماعية والثقافية للحروب، نجد أنها غالبا ما تكون انعكاسا لصراعات أعمق تتعلق بالهوية، والموارد، والسلطة. فالحروب ليست مجرد مواجهات عسكرية، لتمتد إلى التعقيدات الاجتماعية التي تنشأ من التنافس على النفوذ، أو التمايز الثقافي، أو حتى سوء الفهم بين المجموعات المختلفة. وفي كثير من الأحيان تتجذر النزاعات في موروثات تاريخية طويلة من العداء، أو في بنى اجتماعية تكرس الفوارق الطبقية والعرقية. على سبيل المثال، يمكن للصراعات حول الأراضي أو الموارد أن تتفاقم عندما تُفسر من خلال عدسات ثقافية ترى في الآخر تهديدًا وجوديًا أو اقتصاديا. من هنا، يظهر دور الأنثروبولوجيا في فهم هذه الجذور العميقة. إذ يدرس الأنثروبولوجيون السياقات الثقافية والاجتماعية، التي تنشأ فيها النزاعات، مما يساعد على تفكيك المسببات وإيجاد طرق للتعامل معها بفعالية. كما أن دراسة الحرب من منظور أنثروبولوجي تكشف لنا كيف تؤثر الصراعات في تشكيل الهويات الثقافية والذاكرة القومية أو الوطنية حتى، وكيف تعيد صياغة العلاقات الاجتماعية ضمن المجتمعات المتضررة، فالإنسان بطبيعته كائنا ثقافيا يفسر كل ما حوله وفقا لقيمه وأعرافه. كذلك فإن الحرب على الرغم من قسوتها، تدفع الأشخاص والجماعات إلى إعادة تعريف أنفسهم أمام التحديات. وفي أوقات الحروب، يظهر التناقض بين القدرة البشرية على التدمير والإبداع، حيث نرى في قلب الدمار محاولات لإعادة البناء، وفي خضم الألم تولد أشكال جديدة من التضامن الإنساني. إنها لحظة لإعادة اكتشاف قوة الثقافة والمجتمع في مقاومة التفكك والانهيار. لا تقتصر الحروب على إحداث الدمار المادي فقط، بل تمتد آثارها إلى النسيج الاجتماعي للمجتمعات. فعندما تندلع الحروب، تتعرض العلاقات الاجتماعية للاهتزاز، وتتفكك الروابط التي تجمع الأشخاص والجماعات وتتغير البُنى الاجتماعية بفعل النزوح، والهجرة القسرية، وفقدان الثقة بين أبناء المجتمع الواحد، ما يترك ندوبا يصعب علاجها، لأن الحرب تضرب جذور التماسك المجتمعي؛ إذ تزرع الشك والخوف، وتؤدي إلى انقسامات حادة مبنية على الانتماء العرقي أو الديني أو السياسي. كما أنها تخلق أجيالا جديدة تعيش في بيئة من العنف وعدم الاستقرار، مما يهدد بإطالة أمد النزاعات بسبب ترسيخ ثقافة الانتقام والصراعات المستمرة. ومع ذلك، تُظهر المجتمعات قدرة مذهلة على التعافي وإعادة البناء، خاصة إذا توفرت ظروف داعمة للتضامن وإعادة اللحمة الاجتماعية الوطنية. وهنا يمكن للأنثروبولوجيا وبالأخص الأنثروبولوجيا التطبيقية أن تلعب دورا حيويا في دراسة التغييرات الاجتماعية بعد الحروب، ليفيد منها صانع القرار في التعزيز من عمليات المصالحة وإعادة الإعمار. لا يمكننا الحديث عن الحرب من دون التطرق إلى تأثيرها العميق على الإنسان: جسديا ونفسيا وثقافيا. فالقصص التي تحملها الأجيال الناجية من الصراعات ليست مجرد ذكريات، بل هي دروس وروايات تحكي قدرة الإنسان على التحمل والصمود. من هنا، تأتي أهمية دراسة الحرب بوصفها مادة أنثروبولوجية، لفهم كيف تشكل الصراعات التاريخية الحاضر، وكيف يؤثر الحاضر على تشكيل المستقبل. إن فهمنا لهذه الديناميكيات يعزز قدرتنا على بناء مجتمعات أكثر سلامًا وإنسانية.
ولا تقتصر أهمية الأنثروبولوجيا على دراسة الحروب وتحليل أسبابها وآثارها، بل تمتد إلى دورها الفاعل في الحد من الصراعات وبناء جسور التفاهم بين الثقافات المختلفة. فمن خلال فهم العوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤدي إلى النزاعات، تقدم الأنثروبولوجيا أدوات وأساليب تسهم في تعزيز الحوار وبناء السلام.
إن دراسة الثقافات المختلفة تكشف عن الأسباب العميقة وراء النزاعات، مثل التصورات الخاطئة، أو التحيزات المتبادلة، أو الأزمات الناتجة عن التغيرات الاجتماعية المفاجئة. ومن خلال تقديم رؤى علمية حول هذه الأسباب، يمكن للأنثروبولوجيا أن تسهم في تطوير استراتيجيات تسوية النزاعات بشكل يعترف بالخصوصيات الثقافية لكل طرف.
كما أن للأنثروبولوجيين دورا حيويا في التوسط بين الأطراف المتنازعة، حيث يشكّلون حلقة وصل تجمع بين وجهات النظر المختلفة، ويساهمون في صياغة حلول مستدامة قائمة على التفاهم المتبادل.
يمكننا القول إن الأنثروبولوجيا ليست مجرد علم نظري يدرس الإنسان والمجتمع، بل هي أداة عملية تساعدنا على مواجهة تحديات العصر، وفي مقدمتها الحروب والصراعات. إنها دعوة لفهم أعمق للنسيج الإنساني ولتقدير التنوع، الذي يمثل ثروة البشرية بدلا من أن يكون سببا للنزاع.
*وزير الشباب والرياضة