الإنجاب المتقارب.. تحديات صحيَّة واقتصاديَّة تواجه الأسرة والمجتمع

ريبورتاج 2025/01/08
...

   بغداد : نور اللامي 


رغم أن صحة الأم هي العمود الفقري لسلامة الأسرة وصحة الأطفال إلا أن معايير الجودة الاجتماعية في العراق  تقول عكس ذلك، فلا يكفي أن تكوني زوجة سليمة نشيطة مثقفة ومهتمة بأسرتك إن لم تنجبي عصبة من الذكور، لتثبتي بهم حبك لزوجك، فشهادة الصلاحية عندنا هي (كم ذكراً أنجبتِ؟)

تشكل كثرة الإنجاب وفترات الحمل المتقاربة تحديات صحية واجتماعية تؤثر سلبًا في صحة الأم الجسدية والنفسية، وتفاقم الأعباء الاقتصادية والاجتماعية للأسرة. وتؤدي هذه الظاهرة إلى مشكلات صحية مثل التوتر والأمراض المزمنة، وتؤثر في استقرار الأسرة والعلاقات الزوجية.

وأظهر التعداد العام للسكان في العراق لعام 2024 أن عدد السكان بلغ 45,407,895 نسمة، هذا النمو السكاني السريع، بمعدل زيادة سنوية تقارب مليون نسمة يفرض ضغوطًا متزايدة على البنية التحتية.


غياب التخطيط 

تقول السيدة ليلى عباس (46 عاماً) ، "أنا أعيش في منطقة نائية تدعى حي طارق. أروي قصتي الآن، التي أعدها "عقاباً ربانياً" لتهوري أنا وزوجي في حياتنا. قبل 19 عامًا، تزوجت من رجل يعمل في معمل ثلج، وكنا نسكن في غرفة صغيرة بمنزل مستأجر. بعد عام من الزواج، أنجبت طفلي الأول، ولم أتوقف عن الإنجاب بعدها، فقد كنت أريد أن أرضي زوجي.  كنت أنجب الطفل قبل أن أفطم شقيقه الأكبر، حتى أصبح لدينا ستة أبناء: أربعة ذكور وبنتان"، وتابعت : "مع ولادتي الأخيرة، تعرضت لأزمة صحية كادت أن تودي بحياتي. عانيت من عسر في الولادة، وضغط هائل على قلبي الذي أُصيب بذبحة نتيجة وزني الزائد. اضطر الأطباء إلى إجراء عملية لإنقاذي، أوقفوا فيها النزيف وأخرجوا الجنين، لكنها تركتني أعاني من أمراض مزمنة: السكري، ارتفاع ضغط الدم، السوفان، والذبحة. حتى فقر الدم لم يتركني" وأضافت: " اليوم، لا أستطيع رعاية أطفالي كما يجب. صحتي منهارة، وزوجي أيضاً مريض ولا يقوى على العمل. نعيش في منزل مستأجر، بدخل محدود جداً. وترك أطفالي المدرسة لأننا لا نستطيع تحمل مصاريفها. ابني الأكبر يعمل في البناء بالأجر اليومي، وإخوته يبيعون المياه والشاي في الشوارع". واختتمت حديثها بالأسف قائلة: "أشعر بالذل والعجز، وأنا أفكر كيف كان يمكن لحياتي وحياة أطفالي أن تكون أفضل لو فكرنا وخططنا لمستقبلنا. الآن، أعيش معاناة يومية لن أنساها، لكنها قد تكون درسًا للآخرين لكي لا يكرروا خطئي".


ضغوطٌ اجتماعيَّة 

تقاربها من حيث الألم قصة السيدة  (أ.ر) 37 عاماً، خريجة علوم الحاسبات وأم لخمسة أطفال. تقول: "دفعتني الضغوط المجتمعية لإنجاب الذكور إلى المخاطرة بصحتي، خاصة بعد إنجاب أربع بنات، حيث شعرت بابتعاد زوجي وتفكيره بالانفصال، ورغم تحذيرات الطبيبة، قررت الحمل الخامس لتحقيق حلم إنجاب ولد. عند الولادة، تعرضت لنزيف شديد انتهى برفع رحمي، بينما وُلد ابني بحالة خطرة، إذ قضى أسابيع في الخدج. خسرت صحتي ورحمي في سبيل إرضاء زوجي ومجتمع يربط قيمة المرأة بإنجاب الذكور. أشعر بالندم، لكنني كنت أسيرة لضغوط لا ترحم".

بعد اقناعها بصعوبة لتسرد قصتها لنا تقول السيدة  (م.س)، 55 عاماً، "أنا أم لسبعة أطفال أعيش في عشوائيات معسكر الرشيد. قبل عامين، هجرنا زوجي وتركني أواجه الحياة وحدي مع ثلاث بنات وأربعة ذكور. أعمل خبازة لأعيل أسرتي، وتساعدني ابنتي الكبرى في بيع الخبز على بيوت المنطقة. أما أطفالي الصغار، فيخرجون لجمع الحديد والبلاستيك والقناني لبيعها. الحياة قاسية، لكنها لا ترحم امرأة بلا سند، ومع ذلك أواصل النضال من أجل تأمين قوت يومنا". 


انهيار بنية الأسرة 

تؤكد الباحثة الاجتماعية د. رؤى درويش الطرفي أن قضية الإنجاب المفرط تحمل أبعاداً تتجاوز الأسرة لتؤثر بشكل عميق في استقرار الدولة ككل. وترى أن هذه الظاهرة تعرقل قدرة الدولة على توفير الاحتياجات الأساسية مثل التعليم، والصحة، والأمن، والاقتصاد. فتزايد أعداد السكان بشكل غير منظم يضع أعباءً كبيرة على كاهل الحكومات، خصوصاً في دولة كالعراق تواجه تحديات جمة. وتشير الطرفي إلى أن الظاهرة تبدأ من الأسرة، لكنها تمتد لتؤثر في المجتمع بأسره، خاصة في المناطق الفقيرة والعشوائية. فهذه المجتمعات، التي تعتمد على حياة بسيطة وموارد محدودة، غالباً ما تنظر إلى كثرة الأبناء كعامل قوة اجتماعية وقبلية، ما يزيد من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية مع تقدم هؤلاء الأطفال في العمر.

وترى الطرفي أن قلة التعليم وغياب التوعية يشكلان المحركين الرئيسين لهذه الظاهرة. فعندما يكون الوالدان غير متعلمين أو يفتقران إلى الوعي الكافي، يصبح من الصعب التحكم في عدد الأطفال أو توفير تعليم وتربية جيدة لهم. وفي المقابل، تنخفض هذه الظاهرة بين الطبقات المتعلمة التي تتمتع بوعي اقتصادي واجتماعي أفضل. كما حذرت من أن هذه الظاهرة قد تسهم في إنتاج بيئة خصبة للجريمة والتطرف. إذ غالباً ما يُترك الأطفال في المناطق الفقيرة دون إشراف أو تعليم مناسب، ما يجعلهم عرضة للتجنيد في جماعات متطرفة أو عصابات منظمة.

على المستوى الاجتماعي، تتسبب كثرة الإنجاب في تفاقم المشكلات داخل الأسرة. فالضغوط الاقتصادية والاجتماعية تؤدي إلى تفكك العديد من الأسر، ما يترك الأطفال في مواجهة مستقبل غامض وغير مستقر. كما أن الأمهات، اللواتي يعانين من نقص التعليم أو الموارد، يجدن صعوبة في تربية أطفالهن، ما يؤدي إلى تدهور أوضاع الأسر بشكل عام. وتختتم الطرفي بتسليط الضوء على ضرورة تعزيز برامج تنظيم الأسرة من خلال التعليم والتوعية، وبتحذير من أن غياب مثل هذه البرامج يفاقم من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في بلد يواجه تحديات كبيرة كتوفير فرص عمل وتحسين الخدمات الأساسية.


صحة الأم

تؤكد د. مروج طارق الدوري (طبيبة نسائية وتوليد) أن "الإنجاب المتكرر دون فترات فاصلة مناسبة يشكل خطراً على صحة الأم، حيث يمكن أن يؤدي إلى مجموعة من المشكلات الصحية مثل الولادة المبكرة، وانفصال المشيمة، وانخفاض وزن الجنين، أو الاضطرابات الخلقية، وكذلك هبوط الرحم، إضافة إلى زيادة احتمالية الإصابة بأمراض ضغط الدم والسكري. كما أن التكرار المتقارب للإنجاب يجعل الأم عرضة للإرهاق المستمر، والشعور بالتعب، وزيادة الوزن، وترهلات عضلات البطن وآلام الظهر. علاوة على ذلك، فإن كثرة الإنجاب دون تخطيط أو وعي لها آثار اجتماعية ونفسية كبيرة، حيث تؤثر بشكل سلبي في استقرار الأسرة. ويؤدي الضغط النفسي المستمر إلى الجمود العاطفي، ما يعكر العلاقة بين الزوجين ويؤثر في الحياة الأسرية. كما أن الاضطرابات الهرمونية الناتجة عن الحمل المتكرر يمكن أن تدفع الأم إلى نوبات من الاكتئاب والقلق". وعلى العكس من ذلك، تؤكد الدوري "بالنسبة للمباعدة بين الأحمال، فهي تعد ضرورية لصحة الأم وطفلها. فالمباعدة توفر للأم فرصة للتعافي بدنيًا وعاطفيًا، ما يقلل من مخاطر المضاعفات الصحية والاجتماعية. وأوضحت د. مروج أن الفترة الفاصلة بين كل حمل وآخر يجب أن تكون من سنتين إلى ثلاث سنوات، مع التأكيد على ضرورة ألا تتجاوز خمس سنوات بين الأحمال".


وسائل منع الحمل

وأشارت د. مروج الدوري إلى دور وزارة الصحة في تعزيز الوعي وتنظيم الأسرة من خلال توفير برامج تنظيم الأسرة في المراكز الصحية، وذلك بهدف توعية الأسر بمخاطر الإنجاب المفرط وتحديد الفترات الزمنية المناسبة بين الحمل والآخر. في الختام، أكدت أن الهدف ليس التفاخر بالكثرة، بل تعزيز مفهوم الإنجاب المدروس الذي ينتج عنه أسرة قوية قادرة على بناء مجتمع متماسك ومبدع.


التوعية الصحية 

يشير د. عدنان ياسين، مستشار الصحة النفسية في وزارة الصحة، إلى أهمية دور الوزارة في تنظيم الإنجاب وزيادة الوعي الصحي لدى النساء في سن الإنجاب. وبين أن الوزارة توفر وحدات تمكين المرأة في المستشفيات والمراكز الصحية لتعزيز التوعية حول العلاقة بين الصحة وتنظيم الأسرة. موضحاً أن الإنجاب المتكرر وغير المخطط له يمكن أن يؤدي إلى مشكلات صحية خطيرة لدى الأم. ويسبب الضغط الناتج عن رعاية أطفال متعددين في فترات زمنية متقاربة توتراً وقلقاً واكتئاباً، وقد يؤثر سلباً في صحة الأم وسلوكها تجاه أسرتها. فبعد الإنجاب المتكرر، تواجه الأم صعوبة في توزيع مشاعرها بين أطفالها بسبب اختلاف شخصياتهم. كما تظهر الدراسات أن الأطفال الذين يولدون في منتصف الترتيب يعانون من مشكلات نفسية مثل التبول اللا إرادي والقلق، وقد يعانون من صعوبات في التحصيل الدراسي.

وأضاف أن العديد من النساء في العراق تفتقر إلى الوعي بمخاطر الإنجاب المتكرر نتيجة الجهل وعدم التعليم. وأشار إلى أهمية زيادة الوعي عبر وسائل الإعلام والفرق الطبية المتنقلة لتجنب التأثيرات السلبية في الصحة العامة والنفسية للنساء. وأكد ضرورة تنظيم فترات الحمل وتوعية النساء لتقليل المخاطر المرتبطة بالإنجاب المتعدد، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها المجتمع.

تعد كثرة الإنجاب وفترات الحمل المتقاربة من التحديات الصحية والاجتماعية التي تواجه العديد من الأسر، حيث تؤثر بشكل مباشر في صحة الأم الجسدية والنفسية، وقد تسهم في تفاقم الأعباء الاقتصادية والاجتماعية. هذه الظاهرة، التي تعكس غياب التخطيط الأسري، تؤدي إلى العديد من المشكلات الصحية مثل ضعف النمو البدني، والتوتر النفسي، وزيادة معدلات الأمراض المزمنة. كما تؤثر سلبًا في استقرار الأسرة والعلاقات الزوجية، ما ينعكس على المجتمع ككل، سواء من حيث تراجع الإنتاجية الاقتصادية أو انخفاض مستوى التعليم والرعاية الاجتماعية.