الانتصار المُر

آراء 2025/01/08
...

 رحيم عزيز رجب 

في إحدى روايات الكاتب الأميركي الشهير أرنست همنغواي "الشيخ والبحر"، والتي حازت على جائزة نوبل والتي تعد من أبرز الاعمال الأدبية والتي تركت أثرا عميقا في الأدب العالمي، وهي تتلخص بإرادة الإنسان وصراعه مع الطبيعة أو العوامل البشرية الأخرى

 وما تترتب على هذا الصراع من تحديات تواجه الفرد في حياته يقدم الكاتب همنغواي، من خلال شخصية الصياد العنيد، والذي بلغ من العمر عتيا ذلك الصراع غير المتوازن أحيانا حين يقود مركبة وسط أمواج عاتية دون أبسط وسائل السلامة والأمان، والذي يخلو حتى من ذلك الشراع الذي يوجه مركبه باتجاه ما يصبو اليه، ليعود بصيد ثمين لم يتوقعه أحد من الصيادين قط، ويكتب حكمته ليثبت انه مازال ذلك الصياد الماهر حتى وإن خانته قواه وصحته، وإن تمكنت من تدمير الإنسان ولكن لا يمكن هزيمته، لنجد ذلك الصياد الصلب العنيد والصعب المراس في صورة الفلسطيني الثائر الذي يقف اليوم كالطود الشامخ بسلاحه الخفيف المتواضع أيماناً بقضيته المصيرية، فهو أيضا أراد أن يثبت للعالم أجمع أن المرء بإراداته وصبره وقوة تحمله وإيمانه بما يدافع عنه، لن تهزه أسلحة الكون المدمرة وإن تم تدميره، ولكن لا يمكن هزيمته واستسلامه ومحو معتقداته مهما بلغت التحديات، فما واجه ذلك الصياد العنيد الناكس في العمر ورحلته المحفوفة بالمخاطر وما واجهه من تقلبات البحر وتهيج أمواجها العاتية بقارب بسيط متواضع، ورمح هو الأبسط، لم يستسلم ولم يتراجع ولم يتقهقر وهو في عقده الثامن أو يزيد معتمدا على مهاراته في رحلة الصيد والتحدي وهو الأصعب بعد عزوف واعتزال، هو نفسه اليوم الفلسطيني بصدر عارٍ لم يرتد درعا واقيا، ولا يحمل نواظير ليلية، وأغذية معلبة ومجففة، ولا خرائط دالة واسعافات أولية، وغطاء جوي، وعجلات مدرعة يسير خلفها، ليتركها خلف ظهره ويظهر لهم كشبح خفي ينال منهم في كمائن ينصبها، وخطط يضعها على أرض الواقع يتعامل بها حسب معطيات المعركة والاستنزاف، فهو سيدها وقائدها (فأهل مكة ادرى بشعابها) فلم تعد معركته مع كيان غاصب معركة كر وفر. وتدمير وقتل ومجازر ترتكب، لكن هي مسألة وجود وجذور امتدت لأكثر من 73 عاما. وما يجري ليس بالجديد مع كيان دموي اعتاد القتل والتدمير والتهجير وما فعله عام 1948 في دير ياسين، حيث دب الرعب بأهل فلسطين عندما وصلت اليهم اخبار مجازر (دير ياسين) ان فروا مذعورين من بلادهم بأعداد هائلة بالقرب من مدينة القدس. حيث قتل الناس بأسنة الحراب ومزقوا الأطفال مذعورين أمام أعين أمهاتهم ومثلوا بالبنات والشابات بان قطعوا اطرافهن بعد ان اغتصبوهن، ليتعدى الأمر بالمسنين. حيث جردوا ما بقى من النساء والبنات من كل ملابسهن ثم استقلوا شاحنات وانطلقوا بهم إلى القدس وعرضوهن امام الجمهور في الجزء اليهودي من اسرائيل. فإسرائيل الكيان الوحيد في العالم الذي يتطلع خارج حدوده بحثا عن ارض الميعاد المزعوم والمواطنة، وقد اعترفت الصهاينة بازدواج ولائهم فالمطلوب من اليهودي أن يدين بالولاء لإسرائيل وأصبح واضحاً معنى هذه النظرية "ان حياة اليهودي لا تصبح كاملة الا اذا ذهب إلى اسرائيل"، وهذا ما اكده "موشي ديان" العسكري والسياسي الإسرائيلي ومن اكثر الشخصيات الاسرائيلية تأثرا على إسرائيل، حين خرجت من حرب 1956 كدولة حربية مصرة على التوسع حينها قال "هذه لن تكون الحرب الأخيرة، فسوف نحتاج أن نستدعي احتياطنا مرة اخرى". إن قادة اسرائيل يدعون أن الحدود المعترف بها لم يكن لها وجود حتى الآن بين إسرائيل والدول العربية. لذا إن مطامع إسرائيل الاقليمية تتضح تماما في سياسة التوطين، والتي تتبعها في الأراضي المحتلة، فكما يقول " تربيس سميث " إن من يريد أن يعرف كيف يتصور القادة الإسرائيليون مستقبل البلاد وحدودها النهائية، ما عليه إلا أن ينظر إلى خريطة الـ(86) مستوطنة، التي أقامتها إسرائيل في الأرض المحتلة منذ عام 1967، ضم المستوطنات الـ(25) التي اقامتها على مرتفعات الجولان السورية توضح نوايا اسرائيل هناك، إضافة إلى المستوطنات الممتدة عبر وادي الاردن توضح نيتها في الاحتفاظ بحزام آمن على امتداد النهر وعلى الضفة الغربية، فليس من بديل فقط في تضامن القوى الحية مع فلسطين الداخل، لبعث الكفاح المسلح الذي لم يعد من بديل، فهو الكفيل الذي سيعيد بوصلة التاريخ الحضاري لفلسطين إلى وجهتها الصحيحة ويقطع دابر المتآمرين. فالشعوب عندما ترى الكفاح المسلح ستتوجه نحوه بأشكال الدعم كافة، بغض النظر عن كل هذا الزبد الذي سيذهب جفاء ومكوناته من "العداءات الطائفية "والقبلية والعشائرية"، عندها لن تستطيع الحكومات التي اصلا لا تمثل الشعوب أن تصمد امام توجه الجماهير نحو بوصلتهم التي اجبروا على الانحراف عنها.. عندها سينشأ الربيع العربي الحقيقي.