بالون أسود

ثقافة 2025/01/08
...

  حبيب السامر


يمضغ لحظات الأسى على دفعات، كلما حاصرته تلك الرغبات المغمورة والمتدفقة في روحه، خيّل إليه أن كلّ شيء بليد، الفراغات المحشورة في رأسه تنمو وتتحول إلى بالونات غير مرئية، تزيح تلك الإضاءات المتراكمة وتترك همّاً أكبر.

- هذه رغبة مكبوتة، لا مكان لها في رأسه المحشوّ بالبالونات الملوّنة، تربكه هذه الحالة، وكلما فكر في أن يتخلص منها ويغلق تلك الفراغات، تصرّ على الانتشار سريعاً كي تتخلص من كل الإيعازات التي من شأنها أن تفتح له طريقاً، ويبدأ يومه كالمعتاد.

بات يتحسر على تلك الأيام التي قضاها في الجامعة. تذكر ذلك فجأة، وهذا دليل على وجود مساحة إيجابية في الرأس، انتبه إلى نفسه وهو يتذكر طعاماً يحبه وعصائر بألوان مغرية ونساء مررن في حياته وأصحابه الذين كان يدرس معهم ليلة الامتحانات ويطول بهم الليل ليجدوا أنفسهم على مقاعد الكلية.

فرصة جميلة، أن يفقد ذلك البالون حيزه ليتحول إلى فراغات لأيام الدراسة وممارسة الهوايات المحببة له. يقول بالأمس صادفت صديقاً مريضاً كان يقصد المشفى القريب من بيوتنا، يقول هذا ويقصد منذ سنوات طويلة، يجد نفسه محاصراً بالذكريات القديمة، لكنه لا يتذكر أمسه، مصادفة خطيرة تمر به، ينتظر أن يغادر بالون آخر ليجد مساحة معيّنة وسنرى في أي مكان يضغط هذا البالون المنفوخ بالسوء.

- ينظر مليّا في وجوه عائلته ويتحسّر، هل كبرنا كثيراً؟ أين أختي الصغيرة ذات الضفائر الجميلة، تؤشر أمه بسبابتها نحوها، يبتسم، وهل كبرت أيضاً؟

أين دميتها الكبيرة؟ وأين شرائطها الملونة؟

تدمع عينا الأم، وهي تحاول أن تعيد إليه بعض صور قديمة ليحيا مع نفسه في تفسير الأمور.

- نعم يا ولدي... الجميع يكبر مثلك، هذه صورتك وأنت صغير، وهذه صورة أختك و..../ لا شيء يبقى على حاله يا ابني الجميل. بدأ يحدق في صور العائلة، وشرعت الذكريات تتدفق في رأسه. أغمض عينيه بقوة، وكأنه يوحي للجالسين بأنه يريد أن يحبسهما على تلك الصور. تلاشى بالون آخر، سرعان ما فتح عينيه ليرى الجميع في صورتهم الحالية. احتضن أمه وعائلته ليقول: اندفعت البالونات المحشورة في رأسي خارجاً.

- تتكرر الحالة مراراً، حتى تكاد أن تسيطر على تفكيره وهو يدفع بتلك السنوات نحو الماضي بعيداً، كي لا يزاحم أيامه التي يعيشها بين حالتين مرعبتين. يا لهذا القدر المنحوس وهو يزيح كتلة الهواء المتكثفة في حيز محصور، ويلمح قلق الجالسين في عينيه الذابلتين، كل الأشياء اندفعت في اتجاهه وهو يعصر كفين متعرّقتين على تلك اللحظة المؤرقة والحزينة، كلما أراد أحد الحاضرين أن يخفف عن كاهله بعض عناء، يبادره بخجله الدائم، ستمضي، ويصمت كأن الدنيا تضغط بقوة على قفصه الصدري، محاولاً أن يبعد تلك الفكرة الضيقة عن رأسه ليصمت هو الآخر ويبادر المتحدث بشيء من غرابة غير مقصودة، ولكنه يتقصد ذلك ليجعل الإجابة ضبابيّة ويبقي تلك المرارة تصعد وتنزل في جسده. لحظات ودخل صديقه المقرّب ليأخذه في حديث مشترك آخر.