الصواريخ الباليستية.. دقائقُ قاتلةٌ أمام دفاعات عاجزة

بانوراما 2025/01/08
...

 أيغنس تشانغ وصامويل غراندوس 

 ترجمة: أنيس الصفار                                            


ما أن ينطلق صاروخ باليستي نحو السماء حتى يكون كل ما تبقى بيد الطرف المستهدف "المدافع" دقائق لا غير لتحديد مسار هذا الصاروخ بدقة ويحاول اسقاطه. يكون الهدف، وهو في هذه الحالة الرأس الحربي الذي يحمله الصاروخ المعادي، مركباً داخل جسم يقارب حجمه حجم سيارة ويطير عادة خارج الغلاف الجوي ملامساً حافة الفضاء بسرعة تفوق سرعة الصوت عدة مرات.

خلال العام الماضي أطلقت إيران على الكيان الصهيوني اثنتين من اكبر الهجمات بالصواريخ البالستية في التاريخ. لدرجة أنه حتى اكثر أنظمة الدفاع الصاروخي تقدماً على مستوى العالم، التي نشرتها اسرائيل والولايات المتحدة، لم تتمكن من إيقاف سوى بعض منها وليس كلها. 


صعوبة إيقاف الهجوم

الخطوة الأولى التي تقوم بها الصواريخ البالستية هي الخروج من الغلاف الجوي ومن بعد ذلك التسارع الى حدود هائلة قبل ان تهوي عائدة الى الأرض مرة اخرى. ويبدو ان الأمر لم يتطلب من صواريخ  طهران اكثر من 12 دقيقة للوصول الى اهدافها حسب تقدير الخبراء، لذا كان الوقت ضيقاً للغاية على اتخاذ تل ابيب قرارات حاسمة حول كيفية إيقافها.

يجب على الأقمار الاصطناعية المختصة أولاً ان تلتقط في ظرف ثوان البصمة الحرارية المنبعثة من القذيفة الصاروخية، ومن ثم تقوم أجهزة الرادار بتحديد موقع الصاروخ وتحاول حساب مساره بدقة ليتبع ذلك على الفور إطلاق الصاروخ الدفاعي "الاعتراضي" كي يتمكن من الوصول الى الصاروخ المهاجم خلال وقت مناسب.

كل ذلك فيه من الصعوبة ما فيه من اجل التصدي لصاروخ واحد فقط، في حين ان إيران أطلقت خلال أقل من ساعة رشقات كثيفة من الصواريخ خلال الضربة الثانية (ما يقرب من 200 صاروخ باليستي)، ويبدو أن الهدف من ذلك كان إغراق الدفاعات الاسرائيلية  والعمل في ادخالها في جو الفوضى وإرباكها، لإن أجهزة الرادار لا تستطيع تعقب كل هذا العدد من الاهداف خلال وقت واحد، كما ان منصات الاطلاق بمجرد أن تفرغ جعبتها من حمولة الصواريخ الماضادة ستكون بحاجة الى نصف ساعة أو أكثر من الوقت لغرض إعادة التذخير.

عدا ذلك قد يتطلب الأمر من الطرف المستهدف، إذا ما كان لديه احساس بالقلق من احتمال وقوع هجمات لاحقة، أن يتخذ قراراً حاسماً خلال جزء من الثانية بادخار بعض الصواريخ الاعتراضية الأعلى قيمة لاستخدامها عند مواجهة الصواريخ اللاحقة التي ستكون على الأرجح هي الأشد فعلاً وتدميراً.

بعد الرشقة الثانية التي اطلقت أواخر تشرين الأول الماضي قالت تل ابيب إن أنظمتها الدفاعية قد أسقطت العديد من الصواريخ، وزعمت أن تلك التي وصلت الى اهدافها لم توقع كما يبدو سوى أضرار محدودة. لكن صور الاقمار الاصطناعية أظهرت أن تلك الرشقة، التي استخدمت فيها صواريخ اكثر تقدماً على حد وصف المحللين، قد خلفت عشرات الحفر داخل قاعدة "نيفاتيم" الجوية، ولو كانت تلك الصواريخ قد أسقطت على منطقة مأهولة لكان حجم الدمار والخسائر البشرية واسعاً. صمم نظام الدفاع واسع الصيت المعروف باسم "القبة الحديدية" لصد الصواريخ قصيرة المدى، وهو نظام بطيء جداً ومحدود القدرة فيما يتعلق بالصواريخ البالستية. لهذا السبب تعتمد اسرائيل على طبقات متعددة من الدفاعات الجوية الأكثر تقدماً مصممة لمواجهة الصواريخ البالستية وأثناء خوضها مراحل طيرانها المختلفة.


 الباليستي مقابل الاعتراضي 

 الانظمة الاعتراضية الأكثر تقدماً وأبعد مدى، مثل "آرو3"، قادرة على العمل في الفضاء، حيث تقضي الصواريخ الباليستية مثل تلك التي اطلقتها إيران معظم وقت طيرانها. هنا تمثل الفرصة الأولى للخصم لإيقاف تلك الصواريخ، ولكن الأمر ليس فيه ادنى متسع للخطأ على كل هذا الارتفاع فوق الغلاف الجوي. 

هناك ينضوي كلا الصاروخين، الاعتراضي والمهاجم، عنهما نفاثات الدفع التي أمدتهما بالقدرة للوصول الى الفضاء. عندئذ لا تتبقى سوى مركبتين اصغر حجماً تنطلقان بأقصى سرعة صوب بعضهما.

يحاول الصاروخ الاعتراضي تحقيق ضربة مباشرة تؤدي الى تدمير الرأس الحربي، ولأجل الإطباق على الهدف يحمل الصاروخ الاعتراضي أجهزة تحسس واستشعار تتيح له تعقب الصاروخ المعادي مع وسائل دفع تمكنه من التوجه اليه. بيد ان الوقت الذي يستغرقه الصاروخ الاعتراضي عند استشعار مكان هدفه من مسافة ميل لا يترك له من الوقت لتعديل وضبط اتجاهه سوى جزء من الثانية. سبب ذلك هو ان الصواريخ مثل التي أطلقتها إيران مؤخراً لا يزيد قطرها على ثلاثة أقدام عند القاعدة لحظة دخولها الفضاء وتكون منطلقة بسرعة ميلين في الثانية تقريباً (أي نحو ثلاثة كيلومترات).

يزيد الأمر صعوبة أن بعض الصواريخ البالستية تحمل معها اجساماً للمخادعة تضلل بها الصاروخ الاعتراضي، فضلا عن ذلك يمكن لبقايا حطام نفاثات الدفع التسبب بمزيد من 

الإرباك.

من غير الواضح ما هو معدل تكرار نجاح عمليات الاعتراض خارج الغلاف الجوي، لأن الحكومات تميل الى تجنب الكشف عن معدلات الاعتراض الناجحة بشكل محدد، ولها اسبابها ودوافعها لعرض صورة إيجابية في هذا الشأن، حتى في حالة فشل عمليات الاعتراض. وهذا القول ينطبق ايضاً على الشركات المصنعة لهذه الانظمة باهظة التكاليف.

تمتلك اسرائيل حالياً الدفاع الصاروخي ذا الطبقات الاكثر تعدداً على مستوى العالم، عندما تنضم إليه أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية المرابطة داخل المنطقة وخارجها. فإذا ما أخفقت دفاعات الطبقة الخارجية في إيقاف صاروخ معاد قد تكون هنا فرصة أخرى لذلك على يد الانظمة الأقصر مدى التي تعترض الصواريخ المهاجمة من مسافات أقرب الى الأرض.

بيد ان الوقت يأخذ بالنفاد سريعاً، وكلما اقترب الصاروخ البالستي ازدادت خطورته. وحتى لو نجح الاعتراض على ارتفاعات واطئة فإن الحطام الناتج عن ذلك يبقى يشكل تهديداً.

إذا تمكن الصاروخ المهاجم من العودة الى الغلاف الجوي ثانية فإن الوقت المتبقي بينه وبين إنزال ضربته سيكون أقل من دقيقة في أغلب الأحيان. لذا يجب على الدفاعات التي تعمل ضمن طبقات  الغلاف الجوي العليا – مثل نظام "آرو2" الاسرائيلي ونظام "ثاد" الذي ارسلته الولايات المتحدة مؤخراً– أن تطلق صواريخها الاعتراضية خلال ثواني معدودة لا أكثر. 

وإذا ما اقتراب الصاروخ من الأرض فسوف تتوفر للدفاعات قصيرة المدى، مثل نظام باتريوت" الذي ارسلته الولايات المتحدة، فرصة أخيرة لإيقافه. لكن مدى هذه الانظمة لا يتعدى 20 كيلومتراً تقريباً لذا لا يمكنها ان توفر الحماية إلا لمساحات محدودة فقط.

بإمكان الطرف المهاجم ايضاً ان يمارس تشكيلة منوعة من التكتيكات. فلأجل تشتيت انتباه العدو يستطيع هذا الطرف إطلاق رشقة من الأسلحة الأرخص ثمناً ويجعل وقت وصولها متزامناً مع وصول الصواريخ البالستية، وهو ما حاولت إيران فعله أثناء هجوم نيسان الماضي، لكن يبدو ان اسرائيل وحلفاءها قد تمكنوا بسرعة من اجراء عملية فرز ميزت بين الأسلحة الأسرع والأسلحة الأبطأ مستعينين بوسائل دفاع أخرى مثل الطائرات المقاتلة لمواجهتها.

وكجزء من عملية الرد، استهدفت ضربة تل أبيب الانتقامية الأخيرة على إيران مواقع انتاج الصواريخ لغرض خفض القدرة إلايرانية على انتاج صواريخ من النوع الذي أطلقته خلال الفترة الماضية. وألحق ذلك الهجوم أضراراً بمنشأة واحدة على الأقل من منشآت انتاج الصواريخ، بالاضافة الى خلاطات الوقود التي تنتج الطاقة الدافعة لأسطول إيران الصاروخي.

من غير الواضح بعد كيف سيكون الرد المقابل، او ما إذا كانت هناك جولة جديدة من الصواريخ البالستية ستنطلق، لكن اذا ما وقع ذلك فإن خلل التوازن الأساسي في حرب الصواريخ سيبقى قائماً، وهو إن إطلاق صاروخ باليستي أسهل كثيراً من صدّه، كما أن صنع صاروخ باليستي أرخص وأسرع من صنع صاروخ اعتراضي يسقطه.

ومن المعروف أن الصراعات طويلة الأمد يكون الأمر فيها مرهوناً بالطرف الذي سيشح خزينه الصاروخي أولاً. 


عن  صحيفة 

"نيويورك تايمز" الأميركية