النسويات إعادة قراءة
ترجمة وقراءة: كامل عويد العامري
تثير العديد من المنشورات الحديثة تساؤلات بشأن تأثير نضال الحركات والمبادرات التي تسعى لمكافحة جميع أشكال العنف الإيروتيكي. حول طرق قراءة وإعادة القراءة الأدبية التراثية. وتستفسر هذه الدراسات عن ذاكرة أعمال الماضي التي بنيت عبر تاريخ نقدي طويل، تناقلته المؤسسات المدرسية والجامعية. وفي الوقت نفسه الذي تعود فيه إلى هذا التاريخ، تدعو المؤلفات الذي نتاولهنّ في هذا المقال، في دراساتهن إلى الحكم على العمل الفني نفسه، أي العودة إلى النصوص واستئناف القراءة، وتصفح الكتب من جديد التي اعتقدنا أننا نعرفها. هنا قراءة لثلاثة أعمال نسوية، هي: “إلى “لا “النساء” لجينيفر تاماس و”وضع حد للهوى” لساره ديلال، وأيلودي بانيل، وماري بيير و”أسنان كبيرة” لـ”لوسيل نوفا”.
إنَّ التفسيرات، مثل الترجمات، دائمًا ما تكون مرتبطة بزمنها. بعضها يترك أثرًا، من دون أن يدّعي استنفاد معاني الأعمال الأدبية. إنها تكشف عما يجعل السياق التاريخي والثقافي مرئيًا في لوحة فنية أو في فيلم أو كتاب. إنها تسحب خيطًا من شبكة المعاني التي تنبثق من النصوص. وتستجوب ما يتردد فيها من صدى في حاضرنا. يوضح إيف سيتون، وهو أستاذ الأدب الفرنسي، أننا نقرأ لنضيء الأزمنة التي نعيشها من خلال ضوء الأعمال الماضية المؤجل، بينما ينهض الزمن الذي نعيشه بدوره بتعديل ما نفهمه من النصوص. ويبدو هذا الفعل التحديثي في المشهد الأدبي الفرنسي، كوسيلة للرد، من خلال النقد الأدبي، على العنف الإيروتيكي المنهجي. اليوم، كما تكتب النسويات، نعيد قراءة (العلاقات الخطرة)، و(حكايات بيرو)، و(مرتفعات ويذرينغ)، و(دون جوان) عبر ما ساهمت به حركة مي تو #MeToo النسوية ومحاكمات الاغتصاب في مدينة مازان الفرنسية في كشفها عن العلاقات الاجتماعية بين الجنسين. مع إدراك أيضًا أنَّ طرقنا في القراءة تشارك، على الأقل رمزيًا، في تشكيل هذه العلاقات. وربما في تغييرها.
إذا ما أعدنا قراءة قصة “ذات الرداء الأحمر أو ليلى والذئب”” بعناية، كما تقترح لوسيل نوفا في كتابها “أسنان كبيرة”، نكتشف أنَّ التفسيرات المتعاقبة للحكاية تخفي ربما سوء فهم. ويعرف الجميع قصة الطفلة التي تحمل وعاء من الزبدة وانتهى بها المطاف في بطن الذئب. ولكن ربما لم يكن الهدف الأول من الحكاية هو التحذير من الغرباء الذين نلتقي بهم في الغابات. ربما كان الهدف الأساسي هو إثارة الشك في المفترسين اللطفاء الذين يدعون الأطفال للانضمام إليهم في السرير العائلي لالتهامهم. وبالمنطق نفسه، تعتقد جينيفر تاماس أنه ينبغي إعادة قراءة أعمال القرن السابع عشر، من “أندروماك” إلى “أميرة كليفس”، ونفض الغبار عنها. في كتابها “لا النساء”، تكشف في أدب العصر الكلاسيكي عن مجموعة من الرفض والمقاومة النسائية التي ساهمت ردود الأفعال والتأويلات في طمسها إلى حد كبير. وماذا عن المشاعر العاصفة التي تحرك شخصية هيثكليف- في رواية مرتفعات ويذرنغ- أو جوليان سوريل، أو “قصص الحب” التي ترويها مارغريت دوراس في “العاشق” أو بروست في “السجينة”؟ بالنسبة لسارة ديلال- وهي أستاذة جامعية وباحثة في جامعة لوفان في بلجيكا-، وإيلودي بانيل- وهي أستاذة فلسفة ومدرسة في معهد سانت توماس دي فيلنوف، وتهتم بدراسة أهمية أعمال الفيلسوفات النساء عبر التاريخ، خصوصًا في العصور الوسطى- وماري بيير تاشيه، فإنَّ الانبهار النقدي بهذه الروايات يكشف عن ميل إلى تقييم السلوكيات المسيئة والعنيفة تجاه النساء وتجاهل مسألة الموافقة. في كتابهن “”وضع حد للهوى”، تستجوب الكاتبات الطريقة التي تقدم بها الروايات نفسها كنماذج تتشكل فيها السلوكيات الغرامية الضارة أحيانًا.”
لا شك أنَّ القراءة بوصفها قراءة نسوية لا تشمل نموذجًا تأويليًا موحدًا. لكنَّ التقارب الزمني بين صدور هذه المنشورات يدعو إلى الإصغاء إلى الأصداء بين الأعمال التي يتبلور فيها، انطلاقا من مرجعيات نظرية متنوعة للغاية، متخيّل مشترك لما قد يعنيه اليوم إعادة قراءة نصوص من التراث الأدبي من منظور الالتزام النسوي. إنَّ إعادة القراءة بوصفها قراءة نسوية تعني أولاً وقبل كل شيء الرد على ذاكرة الأدب الانتقائية وتحديها. كما أنها تعني أيضًا دحض التقليد التأويلي الذي عزّز “سوء الفهم” وفقًا للوسيل نوفا، وحصر الكلاسيكيات في “نظرة ذكورية” التي تقترح جينيفر تاماس إلى التحرر منها. ومن هنا نشأت علاقة جدلية أحيانًا مع القراءات التي تعتبر مهيمنة في المؤسسة الأدبية. ويتحدى كتاب “وضع حد للهوى”، على وجه الخصوص، نقدًا أكاديميًا يركز على البعد الجمالي للأعمال على حساب طمس شحنتها السياسية. بالنسبة لسارة ديلال وإيلودي بانيل وماري بيير تاشيه، فإنَّ هذا الكتاب هو رد على تشويه مصداقية القراءات “الأخلاقية” مثل تلك التي يقترحنها، لا سيما في فرنسا حيث يستبعد المجتمع الأكاديمي مثل هذه القراءات بانتظام على أساس أنها “مفارقة تاريخية” أو “مقتبسة” أو “متزمتة”.
ومع ذلك، لا تكمن أهمية هذه الدراسات الثلاث في ما تدحض من قراءات سبقتها بقدر ما تكمن في ما تقترحه، بشكل جماعي وفي الوقت الحاضر، من نصوص الشريعة الأدبية. تعود جينيفر تاماس إلى ما يدين به كتابها إلى عملها كمدرّسة للأدب الفرنسي في الولايات المتحدة. وتوضح أنها في سياق تدريسها طوّرت طريقة “استقرائية” تنطوي على “البدء بالأشخاص الذين أمامها” والفكرة هي دعوتهم إلى إعادة قراءة الكلاسيكيات” من أجل “الكشف عن التراث المنسي ودعوة الأصوات المعارضة من القرون القديمة إلى الحوار النسوي” في كتاب لوسيل نوفا، فإنَّ الحواشي هي التي توفر أفقًا لمخاطبة وتأمل جماعي. وباستخدامها غير المتوقع لهوامش المقال، التي عادة ما تكون مخصصة للمراجع النظرية، تنسج الكاتبة تفسيرها للحكاية بدقة في قصتها الخاصة وفي تجربة من حولها. في حديثها عن قصة “ذات الرداء والذئب”، تسرد الكاتبة في أجزاء من قصة والدتها وأجدادها. كما تسرد أيضًا كلمات تلاميذ المدرسة الثانوية التي تدرسهم. وتبين أنَّ درس اللغة الفرنسية يمكن أن يساعد على تحرير الناس للتحدث والاستماع عن العنف المنزلي، وتنقل ردود أفعالهم بدقة وتواضع، وفي ملاحظة طويلة تعطي جسدًا وصوتًا، بعيدًا عن الإحصاءات المعروفة الآن، للانتشار المروع للانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال.
وهكذا، تتبع هذه الكتب الثلاثة مسارات مختلفة. بالنسبة لكتاب الدراسات، فإنَّ الهدف هو الجمع بين الشعور بالإلحاح في مواجهة العنف الذي يتخلل الأحداث الحالية والرغبة في الرجوع إلى كتابات الماضي كرد فعل. كما أنها، أي الدراسات، تتعلق بنشر المعرفة والنصوص، ولكن من دون استبعاد قراءات غير المتخصصين. وتماشيًا مع الدراسات النسوية التي حظيت بطبعات كبيرة جدًا، مثل تلك التي كتبتها منى شوليه أو ليف سترومكويست، لا تتردد الكاتبات في الجمع بين المراجع العلمية والثقافة الشعبية. قد لا يتعرف بعض القراء على أنفسهم في المجموعة الواسعة من المراجع التي تحاول هذه الكتب بناءها، بدءا من مارلين مونرو وبيرتراند كانتات إلى أفلام ديزني للرسوم المتحركة وفيلم الشفق- أخرجته الأميركية كاثرين هاردويك مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتبة الأميركية ستيفاني ماير. وأغاني جان جاك غولدمان. قد يعترض آخرون على التعابير الشفوية التي استخدمتها لوسيل نوفا لخلق التواطؤ، أو قد يظلون متشككين بفكرة أننا يمكننا، كما تقترح مؤلفات كتاب “وضع حد للهوى”، تطبيق معايير الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية الشهير على الشخصيات الخيالية. تتحدى هذه الدراسات الثلاث، بوسائل مختلفة، النخبوية التي، في نظر مؤلفاتها، تحكم على الشريعة الأدبية بالنسيان. وهدفها- أي الدراسات- هو بناء مجتمع من القراء يجمعهم وعي سياسي مشترك ومرجعيات ثقافية متنوعة.
هناك دائمًا مخاطرة في السير في طريق محفوف بالمخاطر، فالنصوص جميعها التي نوقشت بهذه الطريقة بالدرجة نفسها لا تخرج من العمق. ولكن سيكون من الخطأ رفض هذه الدراسات بالجملة على أساس أنَّ القراءة التي تقدمها ليست “أدبية”. إنَّ ضخامة القضايا المطروحة وإلحاح الموقف لا يمنع من مواصلة اللعب بالنصوص دون أن نتحصن بالجدية. وهذا ما تدعو إليه جينيفر تاماس، التي تتجلى قدرتها على بث الحياة في النصوص في كل صفحة تكتبها. أما لوسيل نوفا، التي تستلهم من فيرجينيا وولف بقدر ما تستلهم من بيير بيار، فهي ناجحة بالقدر نفسه، وتدافع عن فكرة “القراءات المتعددة، وطبقات المعنى المتعددة الممكنة، حتى لو بدت هذه القراءات متناقضة أحيانًا للعقل اليقظ”. مثل الحلم، ينجح عملها “اصغ عائما للحكاية” في التوفيق بين الأضداد. إنها تجعل من الممكن القراءة بانتباه مع المجازفة بالكتابة، لتكون جزءًا من التراث النسوي من دون أن تتجاهل إسهامات التحليل النفسي النظرية. إنها تجمع بين المألوف والجمل التي تنفتح مثل القصائد. وفوق كل شيء، فهي تمارس تأويلاً غير سلطوي، حيث لا يستبعد الموقف السياسي الحازم إثارة المعنى. في هذا الصدد، لا شك أنَّ كتاب “أسنان كبيرة” هو الأكثر أدبية بين هذه الدراسات الثلاث. ومع ذلك، وبعيدًا عن القراءات الخاصة التي يستخدمنها، وبعيدًا عن الأشكال المتميزة التي يتبنينها ويبتكرنها، فإنَّ الكاتبات الخمس يمتلكن بلا شك قواسم مشتركة أكثر مما قد يبدو. فإنهن يدعونّ القارئ للتفكير في العنف الايروتيكي من منظور أدبي، إلى تجنب قصر النظر في الاقتصار على أعمال الحاضر. ويوضحن مدى استفادة النضالات التي تخوضها النسويات اليوم من العلاقة الوثيقة مع نصوص الأمس. والهدف من ذلك هو تسليط الضوء على نصوص أخرى ممكنة، ومسارات بديلة، ونقائض صامتة وأخلاقيات غير متوقعة في الروايات التي اعتقدنا أننا نعرفها، ويعني أيضًا إعادة النظر إلى ما تعلمنا قراءته ورؤيته في الأعمال. وأخيرًا، إلى جانب الأعمال المعاصرة الأكثر وضوحًا أو المباشرة في الوقت الراهن، وإلى جانب الشخصيات الزوجية العظيمة، من - مونيك فيتيغ (1935 - 2003) الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية، المعروفة بكتاباتها النسوية الجذرية والروايات التجريبية. والتي تعتبر من الشخصيات البارزة في الأدب النسوي - إلى فرجينيا وولف، فإنّ الهدف هو بناء مكتبة نسوية شخصية عن طريق التحديث. لا شك أنَّ هناك صلفا ومرحًا وأملًا في هذا التحول الذي يدعو ليس فقط للعمل ضد الثقافة والتأويلات التي ورثناها، بل أيضًا للعمل معها، من دون أن نتخلص بالضرورة من نصوص الماضي من دون النظر في الجوانب الإيجابية.