كيف تتحوّل حياة الأبرياء إلى سلعة في سوق الإتجار بالبشر؟
بغداد : مآب عامر
لم تكن قصة بيع الطفلين جديدة، فبين الحين والآخر، تكشف وكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية في وزارة الداخلية العراقية عن وجود عصابات تتاجر بالبشر والأعضاء البشرية.
ووفقاً للوكالة فإنه "بعد ورود معلومات استخباراتية عن وجودهم وأخذ الموافقات القضائية، يتم استدراج المتهمين عبر كمين محكم والقبض عليهم".
ولأن جرائم الاتجار بالبشر تعد دولية غامضة ومعقدة ونوعية، فعملياً، تتبعها يستلزم بعض الإجراءات، كما تحدث مدير شعبة المتابعة المركزية واللجنة العليا لمكافحة الاتجار بالبشر، المقدم حيدر نعيم لـ "الصباح" قائلاً: "هناك تصنيف للمعلومات الاستخباراتية بهذا الشأن، ومن خلال هذا التصنيف يتم اتخاذ القرار فيما لو كانت المعلومة ترتقي إلى مستوى الجريمة أم لا". وبحسب تقرير منظمة العمل الدولية (ILO) فإن حجم الاتجار بالبشر يقدر بمليوني شخص، يتم الاتجار بهم عبر الحدود سنوياً، أغلبهم من النساء والأطفال.
في العراق، يمكن أن يتخذ الاتجار بالبشر أشكالاً عدة، بما في ذلك وعلى سبيل المثال "شبكات الدعارة، نزع الأعضاء البشرية، أعمال السخرة، العمل سداداً للديون، التسول، تجنيد الأطفال وبيعهم، تهريب المهاجرين، العمالة الأجنبية المجانية"، كما يقول نعيم، الذي يرى أن جرائم الاتجار بالبشر في العراق لا تعد ظاهرة، وإنما حالات جرمية مسجلة، كما لا يمكن القضاء على جرائم الاتجار بالبشر، لأنها متجددة ومستمرة منذ بداية البشرية عبر الزمن، وإن أعلى نسبها هي "شبكات الدعارة" وهي بالعادة نتيجة للنقلة التي حدثت في البلاد، والانفتاح الاقتصادي العالمي الموجود، وزيادة دخل الفرد، وبالتالي ظهور مشكلات وظواهر"، وفقاً لحديثه.
ويشير إلى أن هناك قياسات خاصة بهذا الشأن، ويتابع "نحن لا نعمل على أن معدل الجرائم ارتفع أو انخفض، بل كيف بدا معدل الجهود المبذولة بخصوص هذه الجريمة، أما النسب المكتشفة فتعد نجاحات، لأن الاتجار بالبشر يعد من الجرائم الغامضة، فأنت تبدأ بكشفها ثم تعمل عليها استخبارياً عبر توافر المصادر والتجنيد الخاص عليها، وبعد ذلك نستخلص أنها جريمة اتجار بالبشر أم لا".
جرائم الاتجار
وبداية من جرائم الاتجار المتمثلة بالعمالة الأجنبية إلى أعمال السخرة والتسول، وتجنيد الأطفال وبيعهم، ووصولاً إلى شبكات الدعارة ونزع الأعضاء البشرية، يكشف نعيم كيف تمكنت وزارة الداخلية من الحد من هذه الجرائم، كما يوضح أن: هناك شقين بالعمالة الأجنبية، الأول قانوني، ويأتي عبر ابرام عقود رسمية تسعى شركات العمالة الأجنبية لتسجيلها في وزارة العمل ومديرية شؤون الإقامة، وبعدها عبر القانون ويوقع العامل ومن ثم تحدد القيمة المالية وهو عقد قانوني يبرم بين طرفين، هما الشركة والعامل. ولكن في وقت لاحق تتصاعد حدة الخلافات بين الطرفين وخروق في بنود الاتفاق، إذ لا يريد العامل العمل مقابل أجوره القليلة، حتى تؤدي النزاعات بينهما في بعض الحالات إلى الاتجار بالبشر.
وفي بعض الأحيان، يختلف ضحايا الاتجار، وهو الشق الثاني، حيث يتم استغلال الذين يدخلون البلاد من المهاجرين بشكل غير قانوني.
وبحسب لجنة العمل والشؤون الاجتماعية في مجلس النواب فإن هناك مليوناً و500 ألف عامل في عام 2024، حيث يُنظَر إلى العمالة الأجنبية على أنهم الأفضل نتيجة تدني أجورهم مقابل عملهم لساعات طويلة.
شبكة الإنترنت
وترصد وزارة الداخلية جرائم الاتجار بالبشر التي يمكن أن ترتكب عبر أساليب عدة، وخاصة المتداول منها حالياً عبر شبكة الإنترنت، فهناك شبكات تدار عن طريق "كروبات" خاصة، في مواقع التواصل الاجتماعي، كما يوضح نعيم عن طريق الجهد الاستخباراتي واجراءاتنا، تمكنا من الوصول إلى تلك "الكروبات" وإيقاف شبكاتها الموجودة، وقد أحرزنا بالفعل تقدماً في التعامل مع مسألة اتخاذ شبكات التواصل الاجتماعي وسيلة إجرامية بالتعاون مع هيئة الاتصالات ووزارة الاتصالات، وتمكنا من كشف مواقع عدة بهذا الشأن، والحد منها عبر اتخاذ إجراءات فاعلة وبإمكانيات حديثة.
نزع الأعضاء البشريَّة
من الممكن أن ترتكب بشكل بسيط مثل الاتفاق على مبالغ مالية، يمنحها المشتري الشخص المريض للمتبرع بشكل غير قانوني على الرغم من أن هذا يعد تجاوزاً على القانون، لكن هذه الجرائم بالعموم لا يمكن تسميتها بالظاهرة، موضحاً "حتى الإجراءات التي عملنا عليها منذ عام 2012 ولغاية الآن، بشأن جرائم تجارة الأعضاء، تم الحد منها بشكل يصل إلى 90 بالمئة، الأمر الذي فسح المجال، لبدء المجرمين باستقطاب الأشخاص من خارج العراق".
وقد كشفت لجنة الأمن النيابية، في2/ كانون الثاني 2025، عن تفكيك 6 من أهم شبكات تجارة الأعضاء في العراق، ومؤخراً رصدت الأجهزة التابعة لوزارة الداخلية صفحات على "فيسبوك" متخصصة في تجارة الأعضاء البشرية، لا سيما "استئصال الكلى وزراعتها" حيث تعمل على إغراء الشباب من الطبقات الفقيرة بالسفر إلى محافظتي السليمانية وأربيل والدول المجاورة، لإجراء عمليات استئصال الكلى مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين (12-7) مليون دينار عراقي.
جريمة التسوّل
كثيراً ما يفكر الناس بأن التسول جريمة عابرة أو عادية، وأن الفرد يأتي من ذاته ويباشر بفعل التسول ومن ثم يعود إلى أهله، ولكن بعد البحث عن التسول والتحقيق المختص بهذا الشأن يتبين أن التسول يتخذ أشكالاً عدة، ومنها أن هناك أناساً يديرون شبكات مكونة من أفراد عدة وأمكنة إيواء خاصة مع توفير حماية مقابل مبالغ مالية والتي هي بالأساس عوائد التسول عبر شبكة تدار بطريقة منظمة من قبل عصابات إجرامية، ويتابع نعيم قائلاً: من خلال إحدى الجرائم المسجلة لدينا، كانت هناك شبكة تدير النساء والأطفال وتستغلهم لأعمال التسول، ووفرت لهم منازل مقابل أن تدفع لهم بدلات الايجار كدور إيواء خاصة وهناك أشخاص يستقطبونهم عن طريق السلف المالية التي تكون وسيلة ضغط في حال لا يتمكن الضحايا من تسديدها، بتقديمها للشرطة واعتقالهم.
لم يتوقف الأمر على أشكال تلك الجرائم، بل تعداه إلى بيع الأطفال الرضع أو من هم دون الخمسة أعوام، كما يوضح نعيم: لدينا ضباط مختصون بالكشف عن حالات تبدأ بإبرام اتفاق بين البائع والمشتري، ليس فقط للرضع، بل هناك من دون الخمسة أعوام، حيث يتم استخدامهم لحالات التسول وغيرها، وبعض الحالات تكون متبناة أو نتيجة عوز مالي.
ويقدر صندوق الأمم المتحدة للطفل (UNIAF) عدد الأطفال – تحت سن ثماني عشرة سنة- المتورطين بالاتجار بالبشر سنوياً، بغرض العمالة الرخيصة والاستغلال الجنسي، بمليون ونصف المليون طفل سنوياً.
حقائق متوافرة
ويعزو المقدم حيدر نعيم أسباب جرائم الاتجار بالبشر إلى الفقر وضعف الحالة المادية والحروب وتأثيراتها في الأوضاع الاجتماعية، فضلاً عن الضعف الأمني الذي يؤدي بدوره إلى انتشار العصابات المسلحة التي تستخدم وسائل الجرم باستغلال الأفراد.
واستناداً إلى التحقيقات والحقائق المتوافرة عند وزارة الداخلية يذهب نعيم إلى أن "التفكك الأسري" هو من المسببات المهمة لانتعاش جرائم الاتجار بالبشر، وخاصة مع الاستخدام الخاطئ لمواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتم استغلال الفتيات عن طريق المواقع الإلكترونية بحجة وعود الزواج والتعارف وغير ذلك بعدها يتبين أنه يرتبط بجماعة أخرى أو يستغلها بنفسه وتصديرها لأماكن أخرى وتبدأ الضحية بالتعرض لمواقف وضغوط وصولاً إلى دخولها لأحد بيوت الدعارة.
وتقدر المنظمة الدولية للهجرة (IOM) عدد النساء اللاتي يلتحقن بأعمال الدعارة سنوياً بخمسين ألف امرأة.
بحاجة لجهد كبير
ما تحدث عنه مدير شعبة المتابعة المركزية واللجنة العليا لمكافحة الاتجار بالبشر المقدم حيدر نعيم هو ما أكدته رئيسة منظمة (مصير) لمكافحة الاتجار بالبشر ايمان السيلاوي في إشارة إلى أن شكل الاتجار المنتشر في البلاد الآن يتمحور حول الاستغلال الجنسي للنساء والفتيات الصغيرات وتشغيلهن في النوادي الليلية والكافيهات وجهات الترفيه الأخرى.
أما ما تبقى من أشكال الاتجار في البلاد فينحسر في التسول المنظم وبيع الأعضاء البشرية والمتاجرة بالكلى، وكذلك بيع الأطفال من حديثي الولادة عبر أماكن معينة قريبة من
المستشفيات.
وتتعاون منظمة مصير لمكافحة الاتجار بالبشر مع جهات عديدة منها وزارة الداخلية ومديرية مكافحة الاتجار بالبشر، وكذلك مديرية الإقامة ومراكز الشرطة ومراكز الاحتجاز غاية في الحد من جرائم الاتجار.
كما وتتحدث السيلاوي عن المتاجرة السرية للعمالة الوافدة والتي بضمنها العمل القسري والسخرة، ولكن بعد صدور قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2012 بدأ العمل يؤتي ثماره، ولكن حتماً هناك حاجة إلى الكثير من الجهد لجعل العراق خالياً من جرائم الاتجار بالبشر. وتضيف السيلاوي أن "أغلب عمل المنظمة يركز على العمالة الوافدة للعراق وقضايا العمال المهاجرين، وكذلك الاهتمام بمحافظات الوسط والجنوب، لأنها من الضحايا المحتملين للتجارة بالبشر.
المشكلة ليست في القانون
وقد أجريت الكثير من الدراسات وتمكنت الجهات المسؤولة عن هذا الشأن من وضع برنامج حكومي للقضاء على حالات الاتجار بالبشر في العراق عبر اسناد قانون مكافحة الاتجار بالبشر المرقم (28) لسنة 2012، وأيضاً سن قانون عمليات زرع الأعضاء البشرية ومنع الاتجار بها رقم (11) سنة 2016، وتم تعديل هذا القانون عام 2024 وأصبح رقمه (18)، بحسب الناطق الرسمي في وزارة الداخلية.
القانون الذي أصدر تضمن عقوبات قاسية ورادعة، لكنه لم ينه جرائم الاتجار بالبشر في العراق، فهي ما زالت منتشرة، بحسب القانوني محمد جمعة. ويرى جمعة أن المشكلة ليست في القانون، بل في مدى تنفيذه وتطبيقه، حيث لا يزال لدينا الكثير من العصابات التي تعمل في التسول والاستغلال الجنسي.
ويؤكد جمعة أن "شبكات الاتجار بالبشر المنتشرة حالياً في البلاد تتمثل بغالبية المتسولين في الشوارع، وكذلك تلك التي تنشط لأغراض الاستغلال الجنسي". ويشير جمعة إلى أن العديد من السوريين والسوريات يهربون داخل العراق، حيث تستغل الأوضاع الصعبة داخل سوريا، فيتم استغلالهم وبيعهم سواء في المتاجرة الجنسية أو لأغراض السخرة والعمل القسري. ووفقاً للتصنيف الدولي فإن جريمة الاتجار بالبشر تعد ثالث جريمة ترتكب في العالم من حيث خطورتها الجنائية، بينما الثانية هي تهريب الأسلحة والاتجار بالأسلحة، والأولى المخدرات من حيث كسب المال أيضاً.
وبالتأكيد، مع متابعة الأخبار وكذلك سماع الكثير عن تفكيك شبكات جرائم الاتجار بالبشر في البلاد، قد نتساءل للحظة: عن مصير ضحايا الاتجار وأين يذهبون ومن يؤويهم؟.