مفاتيح الزمن المفقودة.. من الساعة الذريَّة إلى الأبد
مارتن ريس
ترجمة : أنيس الصفار
الزمن في حياتنا اليومية سلعة ثمينة جداً بوسعنا كسبه أو خسارته. نستطيع أن نحفظه أو ننفقه أو نبدده، لكنه بالنسبة للعلماء شيء قابل للقياس. فالساعات مثلاً بقيت عبر القرون وسائل عصرها وأدواته التكنولوجية الرفيعة من الساعة المائية إلى الساعة ذات البندول، فمقياس هاريسون للوقت وغيرها، انتهاء بالساعات الذرية خارقة الدقة. كل تلك كانت من أعاجيب التكنولوجيا الحديثة وإن تكن افتقرت إلى الخصائص الجمالية التي اتسمت بها آلات حساب الوقت القديمة.
محاولات
قبل ظهور تقويم معتمد، أو أي صيغة من صيغ التسجيل الأثري الدالة على الزمن بشكل موثوق، كان الماضي غمامة ضبابية. بيد أن هذا لم يحل دون ظهور محاولات لإنشاء تدوينات للتسلسل الزمني في سرد تتابع الأحداث لم تخل من دقة ممتزجة بالخيال. كان التدوين الزمني الأكثر دقة هو ما وضعه "جيمس آشر" رئيس أساقفة مدينة أرماه، ووفقاً لهذا التدوين كانت لحظة ابتداء العالم هي الساعة 6 مساء من يوم السبت 22 تشرين الأول 4004 ق م. وقد بقيت طبعات الانجيل التي تصدرها مطبعة جامعة أوكسفورد مواظبة حتى العام 1910 على إدراج هذا التدوين.
في القرن السابع عشر واجهت تقديرات آشر بعض المشكلات عندما عاد بعض المبشرين اليسوعيين من الصين وهم يتحدثون عن أسفار تاريخية مفصلة يرجع تاريخها إلى سلالات سبقت العام 2350 ق. م وهو التاريخ المتعارف عليه لطوفان نوح. حتى من قبل ذلك كان هناك كثيرون يشككون في إمكانية حشر تاريخ تكوين الأرض كلها، بجبالها وأنهارها وحيوانها .. ضمن حيز 6000 عام.
في القرن التاسع عشر كانت انتباهة عبقرية من داروين أن يدرك كيف أن "الانتخاب الطبيعي للنوع الأفضل" ربما كان هو العامل الذي أعاد تشكيل الحياة من أطوارها البدائية البسيطة إلى كل ذلك التنوع المذهل من المخلوقات التي انقرض الآن معظمها. بيد أن هذا الظهور - وهو عملية عشوائية غير منظمة مضت في طريقها بلا يد توجهها – كان بطبيعته بطيئاً للغاية. من ذلك حدس داروين أن عملية التطور إذن لا بد أن تكون قد استغرقت مئات الملايين من السنين لا مجرد ملايين قليلة، ولم تفته الاستعانة بأدلة من علم الجيولوجيا. حيث قدر داروين، بالاستناد إلى حجج وأدلة، أن مجرد تكوين "وادي كينت" في بريطانيا قد استغرق 300 مليون سنة.
رجوعاً إلى الشمس والكواكب والكون
ينبئنا التحديد الإشعاعي الدقيق للتواريخ اليوم أن الشمس وكواكبها قد بدأت بالتكثف قبل 4,55 مليار سنة من سدم الغاز بين النجوم في مجرة درب التبانة التي لا تمثل - مع مليارات المجرات الأخرى غيرها- سوى جزء تافه من كون أوسع ظهر إلى الوجود منبثقاً من "البداية" الملتهبة قبل نحو 13,8 مليار سنة. وقد أتاحت البيانات الغنية التي جمعتها المراصد العملاقة لعلماء الكون أن يطوروا سيناريو مقبولاً لكوننا المستمر بالتمدد والتوسع. من المخططات الزمنية يمكننا أن نستقرئ الماضي بثقة عائدين إلى تلك الحقبة التي كان كل شيء فيها منضغطاً في حيز شديد الكثافة بحجم نواة الذرة. في ذلك الزمن توسع الكون في ظرف جزء من ألف من الثانية فقط، لكن جزء الثانية هذا - الذي تحددت فيه معالم الكون الأساسية – لا يزال شيئاً غامضاً خاضعاً للتخمينات، لأن الكثافات ودرجات الحرارة حينها كانت أعلى بكثير مما يمكن بلوغه في المختبر، لذا تعثرت خطواتنا على مسار الفيزياء التجريبية.
ترى ما الذي حدث "قبل البداية"؟ للإجابة على هذا السؤال الجوهري لا نمتلك من المعلومات أكثر مما كان يمتلكه القديس أوغسطين في القرن الخامس، وقد تجنب الخوض في هذه المسألة مجادلاً بأن الزمن نفسه خلق مع الكون. يقول علماء الكونيات المعاصرون أن الزمن يلتف منغلقاً على نفسه، وأن السؤال في ذلك أشبه بالتساؤل: ما الذي سيحدث لو أنك توجهت شمالاً من القطب الشمالي؟ لذا يبقى "حدث التكوين" هذا في بعض جوانبه سراً غامضاً بالنسبة لنا كما كان للقديس أوغسطين.
نعتقد اليوم أن تاريخ الكون يمتد عبر مليارات السنين. لقد توسعت آفاقنا الزمنية بشكل هائل رجوعاً إلى الماضي، لكن مفهومنا عن المستقبل امتد إلى أبعد من ذلك. فبالنسبة لأسلافنا في القرن السابع عشر كان التاريخ يدنو من نهايته، حيث كتب السير "توماس براون": "يبدو أن العالم نفسه يقترب من الزوال، وأن القسط الأعظم من الزمن المتداخل في نسيج الماضي أعظم من المتبقي للمستقبل".
بيد أن هذا لا يبدو مقبولاً لدى علماء الفلك، إذ ربما كنا في الواقع أقرب إلى البداية منا إلى النهاية، فشمسنا لا تزال في مقتبل العمر وهي دون منتصف حياتها، وسوف تبقى مشرقة لستة مليارات سنة أخرى قبل أن ينضب وقودها النووي، وعندئذ ستلتهب فتبتلع الكواكب الداخلية. كذلك سيواصل الكون المتوسع توسعه – ربما إلى الأبد – ومن المقدر له أن يصبح أكثر برودة وخواء.
تطور الجنس البشري
لم يبلغ منتهاه
تخلص النظرة التقليدية، حتى لدى من يتقبلون نظرية التطور الدارويني، إلى أننا نحن البشر نمثل حتماً نقطة الأوج في شجرة التطور. لكن وفق منظور مستقبل كوني مترامي الأمد إلى آفاق لا تحدّ، ألا يكون من الأوفق عقلاً الاستنتاج بأننا لم نبلغ بعد منتصف الطريق في الارتقاء الكوني المستمر بالتوسع والتعقيد؟ فأياً تكن المخلوقات التي ستشهد فناء شمسنا (والتي ستكون حتماً قد طورت قبل ذلك بوقت طويل تكنولوجيا تمكنها من الهرب إلى مسافة آمنة) ستكون مختلفة عنا ربما بقدر اختلافنا نحن عن أبسط الفطريات.
لكن حتى في إطار المشهد الزمني بالغ التعقيد الذي يكشفه لنا علم الكون الحديث، الموغل لمليارات السنين في المستقبل ومثلها في الماضي، يتميز قرننا بخصوصية معينة.. فهو الأول من بين 45 مليون قرن سبقته من تاريخ الأرض الذي يتمكن فيه نوع واحد دون سواه، وهو نوعنا البشري، من تحديد مصير الكوكب بأكمله. فالبشر اليوم قد ولجوا ما يطلق عليه أحياناً "الحقبة الأنثروبوسينية" أو "حقبة التأثير البشري". فالبصمة البشرية الجماعية على كوكب الأرض اليوم أقوى وأبرز من أي وقت مضى، والقرارات التي نتخذها بشأن البيئة والطاقة ستبقى أصداؤها تتردد لقرون لاحقة، وهي التي ستحدد مآل الغلاف الحيوي "البايوسفير" للأرض والكيفية التي ستحيا وفقها الأجيال المستقبلية القادمة.
رغم إدراكنا بأن هناك عصوراً لا تزال بانتظارنا تبقى آفاقنا في التخطيط ضيقة منكمشة؛ لأن حياتنا مستمرة في التغير بسرعة شديدة. مديات تركيزنا تنصب على كل ما هو عاجل وفوري، أو الانتخابات المقبلة. كان بناء كاتدرائية في العصور الوسطى يستغرق قرناً من الزمن أو أكثر كي يكتمل، بينما جهدنا التخطيطي في القطاعات العامة أو الخاصة نادراً ما يتخطى عقدين أو ثلاثة في المستقبل، ناهيك عن إقامة بنى وهياكل تشيع احساساً بالديمومة لألف عام كما تفعل الكاتدرائيات.
بل إن الاحتمال الأبلغ أهمية هو أن يكتسب البشريون القدرة على إعادة تصميم أنفسهم أو "تحسينها" عن طريق التعديل الجيني، أو نشر تقنيات "السايبرغ" التي تمكنهم من زرع مزايا الحاسبات الإلكترونية في ذريتهم. هذا التطور عن طريق "تصاميم الذكاء المعاصر" قد يعمل أسرع من عملية الانتخاب الطبيعي الداروينية.
أحفادنا البعيدون ربما سينعمون بأمد حياة أفضل كثيراً مما حظينا به نحن، بل قد يصبحون أقرب للخلود. أمثال هذه الكيانات، التي تمتلك قدرات ذهنية وسلوكيات تتجاوز قدرتنا على الفهم أو حتى التخيل، لن يشعروا بالتأكيد أنهم "سجناء الزمن" مثلما نشعر نحن البشر الفانون. ترى هل سيشغلهم مثلنا كيف ينفقون هذا الزمن أو يدخرونه باعتباره مورداً ثميناً لا يعوض؟ أم أن وفرته المفرطة ستصيبهم بالضجر؟ الزمن وحده كفيل بمعرفة الجواب.
عن مجلة تايم الأميركية