حازم رعد
لم يكن أرسطو طاليس مبتكراً "مؤلفاً" للمنطق كما هو شائع في بعض الأوساط، فالقوانين والقواعد التي تنظم الأفكار وتصوّب وجهتها حاضرة في ذهن الإنسان بالبداهة، وهو يدركها من دون الحاجة إلى توسط عملية نظرية تنطلق من المجهول إلى المعلوم. وتلك القواعد هي ما نسميها بالبديهيات التي يقف عليها العقل مباشرة لمجرد تحرّك الذهن نظريّاً فتساعده على حل المعضلات المعرفيّة وتوجه طريقة التفكير وما إلى ذلك. ومن هذه القواعد تنطلق قواعد ومفاهيم أخرى ثانويّة فلسفيّة ومنطقيّة تعمل على توجيه التفكير وتنظيم الأفكار، وجدير بنا أن نذكر بأنّه تم جمع أبحاث أرسطو المنطقيّة في ستة كتب جمعت تحت عنوان "ارغانون" ثم أدخل عليها "فرفوريوس" الصوري اضافات اسماها "ايساغوجي" أي المدخل إلى المنطق، وبعد ذلك زاد عليها الفلاسفة المسلمين بإدخال الشعر والخطابة في آخر المنطق واعتبروها من الصناعات الخمس، وسنتعرّف في سطور المقال على اسهامات منطقيّة أخرى للفلاسفة المسلمين.
فلم يكن أرسطو إلا جامعاً ومنظماً ومصنفاً لتلك القواعد، ويحسب له هذا الفضل المعرفي المهم في وضع كتاب "المقولات والعبارة" جامعاً بطريقة علمية مرتبة لمسائل المنطق. وبعد ذلك وحينما وصل التراث الفلسفي والمنطقي للمسلمين اسهموا بشكل كبير في نقله وشرحه والإضافة عليه، مما وسّع نطاق المنطق ليشكل موضوعات جديدة وتصنيفات لم تكن معهودة للمفاهيم المنطقيّة. وكان الدور الأبرز في ذلك يعود للمعلم الثاني مفخرة فلاسفة المسلمين وهو ابو نصر الفارابي الذي وضع يده على مناسبة بين عملية النطق والتفكير على اعتبار أن القوة الناطقة "وهي إحدى قوى النفس" هي المستوى الخاص بالعقل من النفس الإنسانية، ولأجل هذا الاكتشاف أطلق على القواعد التي تنظم التفكير وتعصم الذهن من الوقوع في الخطأ بقواعد "المنطق".
صحيح أنَّ للفارابي اسهاماً واضحاً وكبيراً في المنطق على مستوى شرح العبارات وعلى مستوى تصنيف الموضوعات المنطقيّة فإليه يعود فضل تقسم العلم إلى "تصوري وتصديقي" كما أنه من قسم المفهوم إلى الكلي والجزئي، وهو أيضاً أول من قسم المعقولات إلى معقول أولي ومعقول ثانوي، ليفتح صفحة جديدة من عملية تصنيف المفاهيم مرتبة على أساس حضورها في عالم الذهن وتمثلها في الواقع، وهو بذلك يضيف إلى المنطق الأرسطي موضوعات جديدة وتفرّعات للبحث والدرس وتصويب الأفكار وتصحيحها.
ولم يقف الأمر عند الفارابي، وحسب وإنما حاول فلاسفة مسلمين آخرين توجيه المنطق بما يناسب المقولات الإسلامية أو ابتكار منطق إسلامي لو جاز لنا التعبير.. هذا المنطق يقوم على أسس عقلية عامة فاِبن سينا الشيخ الرئيس عمل على شرح مقولات أرسطو وقسمتها وإعطائها معاني جديدة بما يتناسب مع العربية والمقولات الدينية، معتبراً ان تلكم المحمولات تمثلات ذهنيّة لها وجودات واقعيّة في الخارج، والذي يطالع كتاب الإشارات ومنطق المشرقيين ينبهر بعظمة المنجز الذي دشنه ابن سينا والإسهام الذي أضافه للدراسات المنطقيّة، ولم يختلف ابن حزم الاندلسي عن ابن سينا في فهمه للمقولات الأرسطيّة، فهو قد فهمها على أنّها صفات محمولة على الأشياء له نحو من الوجود والكينونة.
وأما "بهمنيار" وهو تلميذ لاِبن سينا، فكان أول من قسم الإدراك على أربعة أقسام، وهي الإدراك الحسّي والخيالي والوهمي والعقلي، واعتبر الأخير آخر المراحل المهمة في عملية الإدراك وإلى اليوم يعمل بهذا التقسيم في الدراسات المنطقيّة.
وفي القرن الرابع الهجري انبرت جماعة "أخوان الصفا" الفلسفيّة في البصرة للمباحث المنطقيّة بالدرس والبحث، فقد قسموا مسائله إلى قسمين، الأول لفظي تنحصر استعمالاته في اللغة وما يعلق بها، والقسم الآخر فكري وهو كل ما يتصل بالذهن الإنساني وما ينتجه من قواعد تنظم الفكر وتصحح الأفكار.
أما الغزالي والملا صدرا الشيرازي فقد أحدثا مفارقة رائعة في مجال المنطق، فقد قالا إنّ القران الكريم احتوى على العديد من القواعد المنطقيّة التي تنظم عملية التفكير اسميتها "بالموازين" وهي تتعلق بالأقيسة (الاستنتاج والاستقراء والاستنباط) وقد عدوا منها ثلاثة أقسام هي ميزان التعاند وميزان التلازم وميزان الاعتدال، ويقصدون بذلك القياس الاستثنائي والاقتراني بأشكالهما المختلفة. وقد أوردو أمثلة وشواهد من آيات القرآن الكريم كحجج على قولهم هذا، وهناك اسهامات وإبداعات منطقيّة أخرى مهمة جداً للعلامة الحلي والفيلسوف الكبير "المير داماد" والشيخ المظفر لا يسع المجال لذكرها كلها فهي أكبر بكثير من أن تختزل بمقاله.
إنّ إبداع الفلاسفة المسلمين في مجال علم المنطق كان واضحاً وثرياً في آن واحد، وأن دورهم كبير في ادخاله لدائرة المعارف الإسلامية للإفادة منه في تنظيم الفكر وتحسين عملية التفكير ولتحقيق جودة على مستوى الناتج العقلي من الأفكار.