الصين تواصل تقدمها إلى التوسع العسكري في الفضاء

بانوراما 2025/01/30
...

  ديدي كيرستن تاتلو

  ترجمة: مي اسماعيل

طموح الصين لتصبح أعظم قوة فضائيَّة في العالم يأخذها إلى القمر وإلى كواكب أخرى.. وإلى التربة الداكنة لصحراء أتاكاما في تشيلي. هناك؛ وضمن محيط طبيعي يشبه تضاريس القمر؛ يقوم العمال بتسوية سهل صخري تحت قمم جبال الانديز، التي يزيد ارتفاعها على  2000 متر، لإقامة مرصد فلكي جديد؛ حيث سيقوم العلماء الصينيون بمراقبة الأجسام التي تدور حول الأرض والبحث عن نجوم جديدة، ومن هناك يمكنهم أيضا إجراء أبحاثٍ ترفد برنامج الفضاء العسكري الصيني متسارع النمو؛ وفق اتفاقية مبرمة مع تشيلي.

تتوالى خطى توسع الصين كقوة عالمية؛ من جزيرة خضراء في الكاريبي (حيث تبني موطئ قدم على عتبة أميركا) إلى القطب الشمالي الجليدي (حيث يشكل وجودها المتزايد تحدياً للولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي). 

وهناك أيضا شبكة من الموانئ حول العالم تشكل قواعد لوجستية مدنية وعسكرية، ومئات المنظمات المرتبطة بالحزب الشيوعي؛ وهذه تتواجد في قلب أميركا كما تتواجد في جزر المحيط الهادئ الصغيرة.

وأخيرا؛ المشروع في أكثر صحاري العالم جفافا.. ذلك المرصد سيكون مجرد واحدة من نقاط انطلاق بكين لتحقيق هدفها المتمثل بالوثب إلى الفضاء وضمان هيمنتها في السماء كما على الأرض؛ وهو جزء من هدفها المعلن المتمثل بأن تصبح القوة الأبرز بحلول منتصف القرن الحالي وإعادة تشكيل النظام الدولي وفقاً لتصميمها الخاص. 


استراتيجية "الاناكوندا"

التحركات الصينية جزءٌ مما تسميه القوات المسلحة في تايوان بــــ"استراتيجية الأناكوندا" بالتطويق من قِبَل الصين؛ أي- تصعيد الضغوط خطوة بخطوة بنفس الطريقة التي يُضيّق بها الثعبان على فريسته؛ غير أنها الآن أصبحت على نطاق عالمي. 

كان الوجود الصيني في الخارج ينمو منذ عقود من الزمن؛ إلا أن إمتداد وصولها إلى جميع أركان العالم (من خلال البنى الأساسية والتجارة والتكنولوجيا والبحوث) يزدادُ وضوحا؛ مع صعود إدارة تعمل ضمنها مؤسساتها الدفاعية والعلمية والتجارية معا لصالح الحزب الشيوعي الصيني. 

إن اكتساب موقع في الفضاء ضد منافسين مثل الولايات المتحدة سيمنح بكين قدرة حاسمة للتأثير على الأحداث حيثما ومتى تختار؛ لأن الفضاء (إضافة لكونه يحفل بالكواكب والنجوم والمجرات) يتعلق أيضا بالأقمار الصناعية التي تُعزز النشاط على الأرض؛ من الهواتف المحمولة إلى الخدمات المصرفية، حتى الصواريخ التي تصيب أهدافها عبر أجهزة استشعار عن بُعد. 

عرض رئيس الحزب الشيوعي الصيني "شي جين بينج" رؤية صينية للهيمنة العالمية بحلول عام 2049؛ عام الذكرى المئوية للثورة الشيوعية.. وهي رؤية تشمل الفضاء؛ وتتطلب بناء مراصد عالمية (مثل المرصد الموجود في "سيرو فينتارونيس"). تمتلك الصين المزيد من البنية التحتية الفضائية في المنطقة (بما فيها القارة القطبية الجنوبية) أكثر من أي مكان آخر خارج الصين (وفقا لبحث أجرته مجلة نيوزويك). 

بينما أعلنت الولايات المتحدة يوماً أن أي تدخل موجه للأميركتين من قبل قوة أجنبية يعد عملاً عدائياً.

تقول "ليزا توبين" (مديرة شؤون الصين السابقة بمجلس الأمن القومي الأمريكي): "ما نراه في تشيلي هو استراتيجية صينية نموذجية: انشاء مرافق علمية حميدة ظاهرياً يمكنها خدمة أهداف استراتيجية متعددة.. تلك المراصد لا تتعقب النجوم فحسب؛ بل يمكنها أيضاً مراقبة الأقمار الصناعية وجمع المعلومات الاستخباراتية ودعم العمليات العسكرية الفضائية. 

تتعمد بكين اخفاء هذه التطبيقات العسكرية وراء ستار من البحث المدني والتعاون العلمي الدولي؛ حتى أنها تُبقي شركاء بحوثها في الظلام بشأن النطاق الحقيقي لأنشطتهم.

والأمر الحاسم هو أن تلك المرافق موجودة في مواقع يمكن أن تساعد الصين لمواجهة المكاسب الأميركية في الفضاء".  

 هدف المشروع

تنفي الصين أية نوايا خفية؛ إذ قال "جيا شينغ هوانغ" القائم بأعمال مدير مركز أميركا الجنوبية للفلك التابع للأكاديمية الصينية للعلوم في سانتياغو- شيلي، والمُشارك عن كثب بعمل المرصد الجديد: "إن المشروع سيكون مفتوحا للمشاركة مع المجتمع العلمي العالمي".

لكن القوات الأميركية غير مقتنعة بتأكيدات براءة النوايا التي ترددها الصين حول وجودها المتوسع؛ من الشرق الأوسط إلى جبال الهيمالايا، وإلى الجزر الاصطناعية التي بنتها وسط بحر الصين الجنوبي.

إذ قال متحدث باسم القيادة الجنوبية لوزارة الدفاع: "إن الوكالات والمنظمات التي تدير هذه المواقع هي امتدادات للذراع العسكرية الصينية. ولذا فإننا نشعر بالقلق إزاء وضع مواقع برعاية صينية لدول ضمن نصف الكرة الغربي لأغراض غير علمية".

وتشمل هذه المخاوف (حسب قول المتحدث) مراقبة وربما تعطيل الاتصالات بين الولايات المتحدة وحلفائها. 

كما قال مصدران استخباراتيان غربيان (على دراية مباشرة بالاتفاقيات بين المعهد الحكومي الصيني وشريكه التشيلي في مرصد فينتارونيس) إن الصينيين قد ينشرون تدابير أمنية خاصة يمكن أن تستبعد التشيليين من جزء من الموقع الذي يتم بناؤه وتمويله من قبل الدولة الصينية. 

الأبحاث التي تجري هناك قد تدعم "استيعاب الصين للوضع الفضائي" (وهو عنصر حيوي في العمل العسكري)؛ بل وربما تساعد برامجها الناشئة للأسلحة الأسرع من الصوت في استهداف الأراضي الأميركية من نصف الكرة الجنوبي. ويعتزم العلماء الصينيون مراقبة مواقع محددة في الفضاء بشكل مستمر؛ لأغراض غير واضحة.

وصرّح "كريستيان موني بيدين" (عالم الفلك الذي يقود المشروع من الجانب التشيلي) أن المرصد المستقبلي سيقام على أرض منحت من قبل الحكومة التشيلية لجامعة خاصة ضمن مدينة أنتوفاجاستا المطلة على المحيط الهادئ، والواقعة في مركز منطقة التعدين وتبعد نحو 55 ميلا عن الموقع برا. ترى بيدين إن أهداف الصين البحثية غير واضحة، وإنهم لا يعرفون بعد ما هي الأجهزة التي يخطط العلماء الصينيون لنصبها أو عدد الأشخاص الذين سيعملون هناك، وأن الخطط المقدمة حتى الآن كانت على الأرجح مجرد خطوة أولى نحو أنشطة أكبر.


إلى القمر.. وما وراءه

تصف خطة علمية حكومية صينية (ُتعرف باسم مشروع سيتيان) مرصد فينتارونيس كونه واحداً من خمس نقاط خارجية ضمن نظام مراقبة عالمي لإجراء.. "مسح كامل" لسماء نصفي الكرة الجنوبي والشمالي بالكامل كل نصف ساعة؛ لتلبية.. "الاحتياجات الاستراتيجية الوطنية".

لا تخفي الصين الصلة بين مصالحها الفضائية وأهدافها الأمنية؛ إذ قال الزعيم الصيني "شي جين بينج" للعلماء والجيش: "استكشفوا الكون الشاسع، وتحولوا إلى قوة عظمى في الفضاء!" وتقول استراتيجية الدفاع الوطني الصينية إنها.. "ستحمي مصالح الصين الأمنية في الفضاء الخارجي والفضاء الكهرومغناطيسي والفضاء الإلكتروني"، كما تقول الحكومة إنها ستنشئ.. "حوكمة فعّالة في الفضاء".   

تتضمن خطط الصين استيطان القمر واستخراج المعادن منه والوصول إلى المريخ والمشتري، فضلاً عن حماية العالم من الكويكبات والكميات المتزايدة من الحطام الفضائي التي صنعها الإنسان، ومراقبة الانفجارات الحرارية العظمى ودفقات أشعة غاما.

خلال حزيران من العام الماضي جلب مسبار "تشانج إي- 6" صخوراً من الجانب البعيد من القمر؛ وهي الأولى من نوعها على مستوى العالم. 

وتشترك الولايات المتحدة ضمن العديد من هذه الأهداف، ولديها أقمار صناعية في الفضاء أكثر من الصين، فضلاً عن برنامج فضائي عسكري كبير.

ولكن الصين تلحق بالركب سريعا؛ إذ تُطلق نحو مئتي قمر صناعي مختلفة الأنواع كل عام. وبحلول آب الماضي أُرسِل إلى المدار أول واحدٍ من أقمار صناعية صغيرة للاتصالات ضمن مشروع "ألف شراع" الذي يهدف إلى التفوق على "ستارلينك": مجموعة الأقمار الصناعية التي يملكها الملياردير "إيلون ماسك". 

وبالتعاون مع مشروع آخر أكثر سريّة يسمى "غووانج" (= شبكة الدولة)؛ تهدف بكين لوضع ما لا يقل عن 25 ألف قمر صناعي صغير في المدار. يبلغ عدد أقمار ستارلينك حالياً نحو 6700 قمر، مع التخطيط لإطلاق 42 ألف قمر صناعي آخر. 

وفقا للورقة البيضاء الصينية حول الفضاء، المنشورة عام 2022، وسياسات وزارة أمن الدولة والخطط العلمية والعسكرية؛ ستُطوّر بكين بحلول عام 2027 "نظام حوكمة البيئة الفضائية". 

وتعمل على انشاء مؤسسات بما فيها- مقر تُديرهُ الصين ومؤسسات لأبحاث واستيطان وتعدين القمر؛ ومحطة أبحاث القمر الدولية (ILRS)  مع روسيا. كما تعمل منظمة "التعاون الفضائي لآسيا والمحيط الهادئ" (APSCO) ومقرها الرئيسي في بكين، على صياغة مجموعة من "قوانين الفضاء".  


تحليلات واتهامات

استجابة لهذا التحدي؛ أنشأ الرئيس الأميركي حينها "دونالد ترامب" عام 2019 أحدث فرع عسكري أميركي: قوة الفضاء.. يُطلق على أعضائها اسم "الحراس" ويرتدون زيا أزرق غامق لتمثيل اتساع الفضاء. 

شرح ضابط كبير من قوة الفضاء تلك اعتقاده أن "جيش التحرير الشعبي الصيني" يُركز على الفضاء استعدادا للصراع، وأنه حقق تقدما سريعا على مدى السنوات الخمس الماضية؛ بل وصل بالفعل إلى نقطة تجعل القوات الأميركية وحلفائها معرضين للخطر إذا نشب صراع في شرق آسيا؛ مثل تايوان؛ التي تدعي الصين تبعيتها لها.

يقول اللواء "غريغوري غاغنون" (نائب رئيس عمليات الفضاء للاستخبارات) عن الجانب الصيني: "إن لديهم القدرة على تعريض أقمارنا الصناعية للخطر في الفضاء الخارجي وكل نظام مداري. 

لكنهم أيضا يرغبون بمشاغلة الولايات المتحدة وحلفائها في أماكن بعيدة عن الشواطئ الصينية. ولأجل تنفيذ ذلك قاموا بأسرع تقدُّم لقدرات الفضاء رأيتهُ على الاطلاق؛ منذ تولي الرئيس الصيني "شي جين بينج" السلطة. 

القوات الأميركية وقوات التحالف بمناطق غرب المحيط الهادئ تخضع الآن لمراقبة مستمرة من الفضاء الخارجي من قبل قوة الفضاء التابعة لجيش التحرير الشعبي"، مضيفا أن ذلك منحهم القدرة على ضرب أهداف بالصواريخ من مسافات بعيدة.

رفضت الصين الاتهامات بأن أهدافها في الفضاء مخصصة لأغراض عسكرية، وقال العقيد "تشانغ شياوغانغ" المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية من بكين اواخر العام الماضي: "إن الجانب الصيني يؤيد الاستخدام السلمي للفضاء، ويعارض تسليح الفضاء وسباق التسلح فيه، ويعزز بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية في مجال الفضاء. لكن الولايات المتحدة تعتبر الفضاء "مجالا لخوض الحرب" وتعمل على تعزيز قواتها الفضائية وإقامة تحالفات عسكرية وعسكرة الفضاء.

تُشكّل هذه الأفعال تهديدات خطيرة للمصالح الأمنية والتنموية المشتركة في الفضاء لجميع البلدان. وقد أثبتت الحقائق أن الولايات المتحدة هي التهديد الأكبر لأمن الفضاء وأكبر محرض على سباق التسلح الفضائي".


مجلة "نيوزويك" الأميركية