اللغة الديمقراطيَّة

ثقافة شعبية 2025/01/30
...

كاظم غيلان 




يحسب لابن خلدون تبشيره المبكر بشعر العامية، حتى في مقدمته الشهيرة، فقد أشار إلى ينابيعه الأولى "كان موشحاً وأصبح زجلاً".

تعددت أسماء هذا اللون، فرسمياً وإعلامياً أطلق عليه "الشعر الشعبي " وكذلك "الشعر المحكي" فـ "الشعر العامي" والذي هو الأكثر تداولاً على الصعيد العربي. 

الشاعر عزيز السماوي ( ت 2001) أرفق في مجموعته الشعرية (النهر الأعمى)  1995، دار الحكمة/ لندن، ندوة حوارية أجريت معه، نظمها فرع اتحاد الكتاب والصحفيين والمترجمين الجزائريين في بلدة سكيكدة بالتعاون مع المسرح البلدي العام 1986، شارك فيها عدد من أدباء، وأساتذة بارزين، خصصت لتجربته الشعرية ، وهي من التجارب المهمة في حركة التجديد بشعر العامية العراقية.

طرح السماوي في معرض حديثه عن التجربة موضحاً بالتعريف بهذا اللون "اللغة المحكية أو اللغة الديمقراطية هي التي يتفاهم بها عامة الناس بطلاقة ومشافهة". رغم وضوح السماوي في تعريفه هذا، إلا أنه وخلال ما حصل من مداخلات أشار الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة وهو أحد المشاركين في الحوارية إلى ما هو سياسي، ولربما حصل سوء فهم لما أراد السماوي ايصاله. فالمناصرة فهم ذلك من زاوية نظر سياسية وهذا ليس بالمستغرب في حالنا الثقافي العربي الذي يحيل كل ما هو ثقافي إلى سياسي تبعاً لغلبة الأخير على حياتنا العربية اليومية، بدءاً من نشرة أخبار الصباح مروراً بسائر فعالياتنا الثقافية والفنية، إذ تحكم المؤسسة الثقافية في سائر بلداننا العربية بقبضتها السياسية على كل ما هو ثقافي وتوظفه لصالح مبتغياتها .

الديمقراطية مفهوم جمالي، وهذه وجهة نظر لربما تختلفون معي بها، فالمثقف له زاوية نظر غير تلك الزاوية التي يرى من خلالها السياسي، وما ذكره السماوي بشأن اللغة الديمقراطية كان تعريفاً جمالياً يبدو غريباً غير مستساغ لأذن المثقف العربي الذي تشغله مفردات القاموس السياسي أكثر من قاموسه الثقافي، وهذا نجده حتى في طبيعة فهم "المثقف النقابي" للديمقراطية، فهو يفهمها وفقاً لتبعيته النقابية للسلطة أو لون حكومة النظام السياسي الذي يؤسس ويغذي نقابات وجمعيات الثقافة والفن ولذا تجد هذا المثقف يطلق على العملية الانتخابية في منظمته اسم "عرس انتخابي" معلناً انتصار الديمقراطية التي في حقيقتها تخادم مصالح وصفقات مريبة بين هذه المنظمات والسلطة، أما الديمقراطية فهي مجرد قناع إعلامي تذبح تحت جداريته الكلمة الحرة .

اللغة الديمقراطية التي أشار لها السماوي ملائمة جداً كتسمية رديفة لتلك الأسماء التي عرف بهذا هذا اللون الإبداعي في التجربة العراقية، والذي ظل عرضة لانتهاكات أفرزتها هزات ومتغيرات عنيفة، بدءاً من سلسلة الحروب والحصار ولا أقول انتهاءً بالاحتلال وما تبعه من صراعات واحتقانات طائفية أثرت وأضرت به جداً حتى شملت سيلاً عارماً من أغاني الموجات الطارئة التي تخلت عن الجمال الذي عهد بتاريخ بداياتها وتحولاتها . اللغة الديمقراطية في راهننا تشترط القول المقترن بالفعل وذلك بات في عداد أحلامنا ونحن نرى ما يحصل في معظم المهرجانات التي يسودها الصخب والقرف .

الديمقراطية حلم الشاعر البهي وتظل لغتها هي المبتغى. ولعزيز السماوي آهات كثيرة في الحلم والجمال :

" اخ .. لو رأس المغني طرب".