جدليَّة الحضور والغياب في قصيدة صابرين الكعبي

ثقافة شعبية 2025/01/30
...

 وجدان عبد العزيز

بقي الشعر العربي يقاوم قساوة الحياة، ويتوسع في الأخذ والرد مع معانيها وسبل العيش في مناكبها، وكما نعرف أن سنة الحياة ضمن المفهوم المتعدد المعاني لها، حيث يشير هذا المفهوم إلى فترة حياة أي كائن حي، بدءاً من لحظة ميلاده، حتى موته، بمعنى كل تحولاته، ومن هنا فإن الحياة تدلّ على حال الكائن الحي في إثبات وجوده وفعاليته في كل عمل وأمرٍ يقوم به، وأنه مستمرٌ في نشاطه ولم يمت بعد، فالحياة تمثل لغة نقيض الموت، حيث تعد حالة تميّز جميع الكائنات الحيّة على اختلافها، بمعنى أن الحياة تطور، فكل ما يرافق الكائن الإنساني هو تطور وتحول، وبما أن الشعر إبداع إنساني، يتماشى وحركة الإنسان النامية، من هنا بدأ الشعر العربي، كما الشعر العالمي يتمرد على التقليد والتكلف اللغوي بانتقاء اللفظ البراق والحرص على الصدق الفني، والتأكيد على التجربة الوجدانية، المعانقة لواقعه المستمر بالتبدل، ومن هذا المسار أخذ الشعر الشعبي العراقي مسار التحول والمشاكسة للواقع، وتلك الظروف المرّة والحلوة التي تسايره، حيث بدأت أجياله تأخذ بزمام المبادرة والإمساك بالمعاني التي تعانق الواقع تارة، وتارة أخرى التمرد عليه بشتى صيغ اللفظ، حيث جاءت قصيدة الشاعرة صابرين الكعبي (على ياذمة)، تحمل تناصاً واضحاً مع قصيدة الشاعر الكبير المرحوم عريان السيد خلف (على يا ذمة توصيني)، فهناك مسايرة، وتبقى تجربة الشاعرة الكعبي تحمل لنا اختلافاً واضحاً عن قصيدة السيد عريان، ولا نبغى المقارنة بين التجربتين بقدر محاولتنا في اجلاء معاني قصيدة الكعبي، الرومانسية ذات العتب واللوم الناعم، كقولها:

على ياذمة صغت روحي إعلى نسيانك 

على ياجلمة ويضيع اسمي على لسانك

واحنيهن نذر كلما يجيني الشوك واندك اعلى بيبانك

فيها انفعال، لكنه انفعال مشوب بالهدوء والهمس والرومانسية الناعمة، على عكس قصيدة السيد عريان المصرح بها علناً، بطريقة الصوت الجهوري المسموع، حتى أن قصيدة الشاعر الكبير السيد خلف، قد لُحنتْ إلى أغنية رددها الجميع، المهم عندنا أن الشاعرة الكعبي امتازت بالهدوء، وهكذا تنساب كلماتها، حيث تقول:

(طيح وي ضوه اليشعل روازيني 

بخور وعالدرب تكبر نياشيني 

احط من صورتك صوتك واكول من استحي كبالك تحاجيني 

عليش المايشبهك يزغر بعيني 

وليش برودتك بالروح تجويني).

بهذا الهدوء والهمس الخجلان تعالج محنة الغياب بالجمال، فالصورة والصوت تتساوى، أي المرئي والمسموع يتحول عندها إلى شيء من الإحساس، وحتى وردة الحبيب تجوي الروح بصمت، بعيداً عن الانضواء، فكل من يشبه حبيبها لا يساوي صورته الحقيقية، فالشاعرة حالمة تعيش مشاعرها لوحدها، ولكنها سربتها عبر كلمات الشعر، هذا العالم التيه المبني على الاحتمال، حيث تبقى 

تردد:

(تعال اظفر حزن روحي وي كل ليلك 

يجي وجهك حزن محراب يغفرلي)

فالليل هو محراب العشق واللقاء غير المرئي، أي أنها تعيش حضور الحبيب عبر المناجاة ومن خلال القصيدة.. (يماخذني ثواب إنسان مات ونيته يشوفك/ يباجيني على نزوة كيف لاعذرك ولاعوفك)، هكذا يكون الحضور من خلال الكلمات لا غير، إنها تعيش صدق الكلمات المعبرة عن لوعة الفراق، ولوعة الحب، لكن هذه اللوعة تعادلها القصيدة المتضمنة شريط الحضور، حضور الحب والجمال والحياة.. تقول الناقدة السعودية عائشة محمد عريشي: (للثنائيات الضدية أهمية كبيرة في النصوص الشعرية؛ فهي تعبر عن الواقع الذي يعيشه الشاعر، وما يمر به من أحداث وتقلبات، وقد تناول النقد المعاصر في معطياته النظرية مفهوم الثنائيات، بوصفه مفهومًا بنائيًا في التحليل، وذلك بالارتكاز على دراسات (كلود ليفي شتراوس) حول الأساطير، متمثلة بالثنائيات المتعارضة والمتكاملة في الحين نفسه. 

ويتمثل التحليل البنائي في سعيهِ إلى تفسير العمل الأدبي،  شعرًا كان أم نثرًا، إلى الوحدات الثنائية، والعمل على رصدها،  ثم تصنيفها بضم المتشابه منها في قوائم معينة، بحيث يسمح في النهاية بقراءة جديدة، وفقًا لترتيب وحداته الدلالية)، ويحصل المغزى من خلال فهم العلاقات داخل النص، ويتجلى ذلك بوضوح من خلال تعدد القراءات للنص، وفهم هذه العلاقات في النص، يتجلى بوضوح من تعدد القراءات للنص، والغوص في أغواره؛ فالثنائيات توجد في كل ما يحيط بنا من أحداث كونية مثل الشروق والغروب، والنور والظلام، وموجودة في أمور أخرى كالخير والشر، والموت والحياة، والسواد والبياض، والحزن والفرح، والحب والكره، وبالتالي يتبدى لنا بأن الحياة عبارة عن ثنائيات يشاهدها الإنسان، ويشعر بها في كل جوانب حياته، والحضور والغياب أحد هذه الثنائيات، التي تكسب النصوص طبيعة حركية 

وجدليّة.