لاجئ سوري يحلم بوطنٍ أكثر تمدّناً وعدالة
![...](/uploads/posts/2025-02/1738529712.jpg)
كيت كونولي
ترجمة: بهاء سلمان
كانت المستشارة السابقة لحكومة ألمانيا؛ "انجيلا ميركل" تترجل من سيارتها متجهة نحو تجمهر صاخب خارج احد مراكز ايواء اللاجئين بمنطقة شبانداو في برلين صبيحة أحد أيام أيلول 2015، ولم يدر مطلقا في خلد "أنس مودماني"، اللاجئ السوري ذي الثمانية عشرة عاما، من هي هذه المرأة عندما اقترب منها لالتقاط صورة سيلفي. ويعلق بالقول: "لقد افترضت أنها شخص ما مهتم برؤيتنا وأوضاعنا، وكيف تجري شؤوننا،" مشيرا إلى المئات الذين وصل معهم إلى العاصمة الألمانية قبل ذلك الحدث بيوم، بعد رحلة طويلة ومليئة بالصعاب من وطنه الذي مزقته الحروب.
مفاجأة مدويّة
يصف أنس المشهد كما يلي: "قلت لها: "أريد أن ألتقط صورة معك"،" وإنحنيت برفق، لالتقط صورة السيلفي معها. وما أسرع علا الصياح بعد ذلك بلحظات، فقد صرخ الناس: "ماما ميركل" ... لاكتشف حينها فقط من تكون هذه المرأة: إنها رأس حكومة ألمانيا، فهي المستشارة المسؤولة عن القرار التاريخي بعدم غلق الحدود الألمانية، وإنما فتحها بوجه اللاجئين القادمين من سوريا." ومضت لقطة الصورة الملتقطة، مع ابتسامة ميركل بوجه هاتف الشاب مودماني وهو يضع يده على كتفها، لتجتاح العالم بأسره. "لم أكن لاتخيّل مطلقا القدرة التي تمتلكها صورة سيلفي واحدة" هكذا يعلق الشاب، البالغ حاليا من العمر 28 سنة.
وبعد فترة من الزمن انضمت صورة السيلفي إلى كتاب السيرة الذاتية للمستشارة ميركل والذي كان قد صدر لاحقا تحت اسم "الحرية"، وعندها تلقى مودماني سيلا لا ينقطع من الرسائل من الأصدقاء والمعارف مع لقطات على صفحته. ويقول إن هذا الأمر يمثل إقرارا ترحيبيا، "يشير إلى أنه سيكون جزء من التأريخ إلى الأبد." ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد شهر كانون الأول الماضي، يتم الطلب من مودماني، بتلخيص مشاعر أبناء بلده، إذ أنه كان يُطلَبُ منه ذلك بانتظام، لكونه أحد أبرز الأوجه لما يقارب مليون لاجئ سوري يقيمون في ألمانيا خاصة بعدما بنى لنفسه حياة ناجحة، ويعمل الآن منتجا لمقاطع الفديو القصيرة وسط برلين.
يقول مودماني: "الأمر لا يصدّق، أنا أشعر وكأنني إنسان جديد، فليس عليّ القلق بعد الآن مثلما كنت على مدى سنوات حول حياتي في سوريا، فلدي ميزة الاستمتاع بواقع يشير لامتلاكي حاليا لوطنين يمكنني العيش فيهما." وشارك العديد من الأصدقاء والجيران الألمان الاحتفالات بسقوط نظام الحكم السوري السابق، وعلى حد قوله: "لقد أدركوا أهمية الأمر، فقد كان الأمر بالنسبة لنا مثل ما يعنيه سقوط جدار برلين بالنسبة لهم."
بين العودة والبقاء
وتبقى ثقافة الترحيب الألمانية التي استقبلت اللاجئين السوريين سنة 2015 تمثل شعورا دائميا، كما يعتقد مودماني جازما، حتى مع احساسه بالصدمة بعد ساعات من سقوط النظام، حيث أشار سياسيون من مختلف أحزاب اليمين المتطرّف، والمتوقع أن يتبوؤا سدة الحكم في الحكومة الألمانية المقبلة، عن دفعهم باتجاه عودة السوريين. ومع وجود انتخابات مبكرة من المتوقع اجراؤها خلال شباط القادم، فقد صارت هذه المسألة من الأمور المتداولة بشكل كبير. بنفس الوقت، قررت السلطات تجميد طلبات اللجوء المعلّقة لمن يحمل الجنسية السورية.
وتعمل حالة الغموض على إحداث المزيد من القلق، كما يقول مودماني للكثير من عشرات الآلاف من السوريين الداخلين ضمن القوى العاملة الألمانية، وبضمنهم فنيو السيارات، ومهندسو التدفئة، ونحو ستة آلاف طبيب سوري فضلا عن آلاف آخرين يعملون ضمن ميدان الرعاية الصحية. وبنفس الوقت الذي يعبر فيه عن امتنانه للمؤسسات الألمانية، التي سددت مصاريف دراسته، مع توفير دورات لتعلّم اللغة، وغطت تكاليف الإيجار ومنحته وسيلة للحصول على الجنسية الالمانية، يقر أيضا بحجم الألم نتيجة أوقات كثيرة مرت عليه من تجربة كون المرء لاجئا، وكيف كان يعاني من ملاحقة مناصري الشعبوية لليمين المتطرّف الألماني بسبب صورة السيلفي التي إلتقطها مع أنجيلا ميركل؛ الخصم الرئيس للشعبوية اليمينية.
عمل اليمين المتطرّف في ألمانيا على تحريف صورة السيلفي لجعل أنس مودماني يبدو وكأنه من الارهابيين، وجعله ضمن حملات مضللة على صلة بالهجمات الإرهابية التي شهدتها برلين وبروكسل قبل سنوات سابقة من اللجوء الإنساني. ونقلت وسائل الاعلام العربية التقارير، لتعاد نشر الأكاذيب بحقه وأبناء بلده. يقول مودماني: "لقد كانت أسوأ أوقات حياتي، حيث أمضيت عاما كاملا تقريبا مختبئا داخل المنزل، وأخشى الخروج منه، فاقدا لرغبتي في الحديث مع الناس، بسبب الأكاذيب المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أشارت إلى قتلي للناس الأبرياء."
مشاعر مؤلمة
الأمر الأسوأ تمثل في الألم الذي أصاب والدته، كما يقول. "إذ أنها قرأت بأن |"أنس من الارهابيين"، فظلت أمي تبكي لأيام، مع تلقيها لرسائل مليئة بالغضب وعبارات العنف من أشخاص يبلغوها بأن ولدها إرهابي يعيش في ألمانيا. ومع فرحها الشديد لعلمها بموضوع صورة السيلفي مسبقا، قالت لي والدتي: "لا أريد أن أرى هذه الصورة مرة أخرى." ومنذ ذلك الوقت، كنت أوضح لها كم هو حجم الأوجه الايجابية المتعددة لهذه الصورة، ومن المفيد أنها حاليا تلتقي مع وجهة نظري."
ينوي أنس مودماني العودة إلى سوريا بعد شباط القادم، وستتابع فرق القنوات التلفزيونية الألمانية رحلة العودة مع زيارته لأول مرة بعد عشر سنوات من الغربة، ليعود إلى منزلهم المدمر في ضاحية داريا بريف دمشق، المنطقة التي شهدت أعمال قتل جماعية ارتكبتها القوات المتحاربة.
ويخطط اللاجئ العائد لإعادة بناء منزله بما يملكه من مدخرات، والمساهمة بإعادة بناء بلده سوريا، التي يتأمل أن "تصير أكثر تمدنا وعدالة وانفتاحا على العالم؛ مثل أوروبا." سيكون الطابق السفلي لوالديه، أما الطابق العلوي فسيكون لمودماني ورفيقته، "آنا"، وهي مهندسة ميكانيكية من كييف، إلتقاها في برلين خلال دراسته، والتي ساعد عائلتها على القدوم إلى ألمانيا بعد اندلاع الحرب الروسية مع اوكرانيا.
يقول مودماني: "لقد تحدثنا حول كيفية تقسيم وقتنا بين برلين ودمشق، وكييف، عندما ستنتهي حرب أوكرانيا. أنا اعتبر برلين بمثابة المكان الذي كبرت فيه، وستبقى بمثابة الوطن الثاني لي طالما كانت أحزاب اليمين المتطرّف بعيدة عن زمام السلطة في برلين." ويتطلع مودماني لما سيمكن أن يقوله للمستشارة السابقة ميركل إذا ما رآها الآن، ويضيف: "أنا لم أخيّب ظنّها، ولقد حققت نجاحا من الفرص المتاحة لي." وسأردد العبارة التي استخدمتها في ذروة أزمة اللاجئين: "باستطاعتنا فعل هذا الأمر. لقد نجحت."
صحيفة الغارديان البريطانية