أ.د. عامر حسن فياض
في عالم اليوم عندما ننشد مستقبلاً لا نأتي به من الغيب ولا من أكوان وعوالم خارج التاريخ والجغرافيا بل نأتي به من عالم نعيشه.. عالم مضطرب تتحكم فيه نظرية الصفر الأخلاقي أو العدمية الأخلاقية في السياسة والاقتصاد.
فكيف الوصول إلى خطاب سياسي خارجي موحد للعراق بعيداً عن نجاسات عالم الهيمنة والتبعية وحروب الإبادة وبعيداً عن تسييد أنظمة التفاهات ودمويات
الفوضى؟
إن الولايات المتحدة الأمريكية قبل ترامب وما بعده تعتمد خطاباً سياسياً خارجياً يقوم على ثلاثة ثوابت لا تتزعزع هي قيادة العالم وتأمين الطاقة وأمن إسرائيل.
وهذه الثوابت لا تتغير سواء كان الرئيس الأمريكي جمهوريا أو ديمقراطيا على امتداد تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وحتى ما بعد اليوم وإن كل آخر وفق المنظور الأمريكي
(إن لم يكن معنا فهو ضدنا).
كما أن هذه الثوابت تتبرقع في الخطاب السياسي الخارجي الأمريكي بشعار (نشر الديمقراطية وتحقيق الأمن والاستقرار في العالم) وحقيقة التوجه الأمريكي تفيد بأن لا ديمقراطية في أي بلد لا يقر ولا يخضع للثوابت الأمريكية ولا أمن ولا استقرار في أي بلد لا يقر ولا يخضع للثوابت الأمريكية.
وفي كتيب (بلاد العم سام) يقول الكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي إن الديمقراطية في المنظور الأمريكي للآخرين ينبغي أن تكون على الفصال الأمريكي، وبمعنى (أعمل ما تريد لأنك تعمل ما نريد).
إذن المطلوب أمريكيا من الآخر غير الأمريكي أن يحكم بنظام التفاهة، ليضمن الاستقرار إن كان مستسلما للثوابت الأمريكية أو يحكم بنظام الفوضى إن كان خارج الطاعة الأمريكية وغير مستسلم للثوابت الأمريكية.
إن تشخيص واقع الخطاب السياسي الخارجي للعراق يؤشر إلى أنه خطاب يسعى إلى التوحد غير أنه يعاني من بعثرة من حيث المؤسسات والصياغة والتوجيهات. فمن حيث المؤسسات وإن تنوعت (رئاسة مجلس الوزراء، وزارة الخارجية، مجلس النواب لجنة الشؤون الخارجية) فإن هذا التنوع يحتاج إلى تنسيق يؤدي إلى توحيد للخطاب.
ومن حيث الصياغة ينبغي أن تعتمد صياغة الخطاب السياسي الخارجي على ثوابت عراقية، يتضمنها الدستور ولا يمكن الخروج عنها من قبل صاغة من أصحاب العلم والمهنة في الشؤون الخارجية.
ومن حيث التوجهات فإنها لا يمكن إلا أن تكون توجهات محكومة بمصلحة العراق أولاً وفق نهج تعاوني وليس تصارعيا يقوم على مبدأ (كسب الأصدقاء وتحييد الخصوم) دون عزلة وقطيعة عن المحيط الإقليمي والدولي من جهة ودون انغماس مستعجل في مشكلات هذا المحيط الإقليمي والدولي من جهة أخرى.
ما هي مواصفات هذا الخطاب المنشود؟
أولاً: استقلالية القرار السياسي الخارجي وتلك الاستقلالية لا تقوم على سيادة صلبة (بودانية) تصارعية ولا على سيادة سيالة (تبعية معلومة أمريكيا)، قائمة على مبدأ النأي بالنفس بل قائمة على سيادة تعاونية تشاركيه على المستوى الإقليمي والدولي.
ثانياً: هذه السيادة التعاونية واقعية متنوعة تجعل العراق يتعامل مع الأخر على أساس وظيفي (مصالح مشتركة واعتمادية متبادلة) .
ثالثاً: تجنب أن يكون العراق جغرافية صراع بل جغرافية حوار بين المتخاصمين على المستويين الإقليمي والدولي.
رابعاً: منطلق (العراق أولاً) يحكم بالنظرة والمدرك العراقي للآخر الإقليمي والدولي بمعنى إن الخطاب العراقي ينبغي ألا ينظر إلى إيران بالعين الأمريكية ولا ينظر إلى أمريكيا بالعين الإيرانية.
خامساً: وكيما يتحول (العراق أولاً) من شعار إلى حقيقة ينبغي تعافي الداخل العراقي سياسياً واقتصادياً وأمنياً ليكون عراقا محكوما سياسياً بديمقراطية حقيقية تقوم على الوطنية وليس على الجهوية ومحكوما اقتصادياً بالخصوبة الإنتاجية وليس بعقم الاستهلاكية ومحكوما امنياً بجيش وقوات أمنية لدولة تحتكر السلاح دون غيرها.
وبهذه المواصفات لا ننتظر كما يبالغ الآخرون بانتظار ما سيقوم به ترامب.
فليس كل الإجراءات التي اتخذها وسيتخذها ترامب ستكون بلا رد فعل من الداخل الأمريكي وخارجه.
وحذار من تخلي الخطاب السياسي الخارجي للعراق عن فلسطين وعن حكومة ديمقراطية توازن بين القوى الإسلامية والعلمانية في سوريا، وعن دعم الدولة والجيش في لبنان وعن جعل المنطقة خالية من السلاح النووي، وليس ترامب هي المنقذ وهي المخلص وليعلم الجميع إن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وكل الغرب الرأسمالي المتوحش يقتل ولا يقاتل ولا يسالم ويبقى المقاوم يقاتل ويسالم.