سكائر {استوك}

ثقافة 2025/02/05
...

  حاتم حسين


جفلت من فكرة العودة إلى البيت، وأنا دون مؤونة لأطفالي، لذا توجّب عليّ الإصرار وطرق الأبواب، فقد تستلهمني فكرة التجارة، لذا فكرت بالذهاب إلى قلب الاقتصاد "سوق الشورجة" "سوق الكفاح" لبيع السكاير بالجملة، طرقتُ أبواب الكثير مِن المحلات ،لكن الجميع رفض مدَّ العون والمساعدة لي حين عرضت الأمر على أحدهم وكان صديقا غير مُقرّب لي، رفض إعطائي كارتونة من السكائر، لكي أبيعها وأسدد بالتالي ثمنها، وحين عجزت عن إقناعه هممت بالخروج من المحل، نادى عليّ  الرجل الجالس الى جنبه قائلا: أنا يمكنني أن أعرض عليك بضاعتي مِن السكائر، لكنّها سكائر قديمة مضى عليها زمنٌ طويل. كانت محجوزةً في الجمارك ، وخسرت فيها الكثير حتّى أصبحت (استوك) فإذا كان بإمكانك بيعها بسعر مناسب، على أن أبيعها لك بمبلغ رخيص جدا، ممكن ان تُرزق منها، كان اقتراحاً مُنّقذا لي.. وكأنّ الأبواب قد فُتحِت إمامي.

قال لي: خذ كارتونة  وبعها  ثُمّ سدّد ما يترتب عليك. اغتبطت للفكرة، لكنّي ابتهلت إلى  الله أن يعينني على بيعها.

قلت في نفسي على سبيل التجربة، سأخذ فقط عشرين (تكةً) أبيعها وأسدد له، اغتبط وقبل باقتراحي أيضا، ووجدني شغوفا بأن أعمل فعلا.

استلمت عشرين (تكة) وما أن وصلت إلى إحدى (البسطيات ) المخصصة لبيع السكائر على مقربة من منطقة "حافظ القاضي" عرضت ( المارلبور) السكارة العالمية، حتّى استغرب  صاحب البسطية من سعرها الرخيص الذي عرضته عليه، وهو يُقلّبها غير مصدّقٍ لأنّ سعر "الماربور" لا يقل عن خمسة عشر دولارا. 

قال : معقوله بأربعة آلاف؟!

قلت: نعم. 

حدّق في وجهي كالذي يتفحصني وقال: أخاف إنّها مسروقة؟ 

قلت: أستغفر الله بإمكانك أن تنادي على الشرطة وتتأكد؟ وللاطمئنان معي وصل بالشراء.

 قال: انا أمزح معك.. ثم أردف قائلا "ليش أتبيعه رخيص؟ ".

قلت  له: إنّه قديم يمكن أن تقول (استوك) 

قال اسمحلي أن أفتح باكيتاً  لكي أجرّبه.

 قلت له: أفتح.

وراح يتفحّص نظافة السيجارة، ومن ثمّ أشعلها.. وتذوّق طعمها ونفث دخانها، وقال:  إنّها ممتازة، أريد كلّ السجائر التي عندك.

كان صباحا مبشّرا، وأنا أعاني الإفلاس حيث لا درهمَ في جيبي، وفي بيتي لا نملك ديناراً  واحدا، أعطاني المبلغ  وهرعت إلى صاحب المحل لأسلمه أربعين ألفاً فقط ثمن العشرين تكة، فقد ابتهج، وأنا أسلمه المبلغ، وأخذت  منه ثلاثين ( تكة) أخرى والمتبقية من الصندوق الأول الذي فتحته، وسرت  فرحا  ومبتهجا أعرض على البسطيات،  وأنا أحمل الثلاثين تكة  حتى سهل الله أمري، وقِمتُ ببيِعها،  وعدت  سريعا بالمبلغ لصاحب المحل الذي تفاءل بي واستبشر بي خيرا. بل وصرت محبوبا لديه منذ الساعات الأولى، لأنّي بعت بضاعته النائمة في مخازنه، انتعش البيت، وكذلك أمُّ البيت، وأنا أجلب اللحم ، والخضار،  والخبز الحار والحليب، حيث كان البيت خاليا تماماً من أيّ نعمة من هذه النعم التي بدأت أتحسّس طعمها ولذتها كونها حلالا، "مئة ألف دينار ربحت" كنت أحلم برؤيتها صارت في جيبي الآن من بيع الكارتونة الواحدة من السجائر، فكيف إذا سهل الله الأمر عليّ، وبعت كلَّ ما في المخزن؟

شعور بالحماس، واتّقاد الطاقة في النفس، وأنا أبيع الكارتونة الثالثة والرابعة والخامسة، وتذكرت ذلك اليوم الذي أجبرتني الظروف أن أصعد إلى شقة صديقي الذي طرقت عليه الباب، وعلم بحاجتي الماسة إلى المال، فما أن فتح الباب، وتطلّع بوجهي حتى قال: محتاج افلوس؟

لم أتفوه ببنت شفة لكنّي هززت رأسي موحياً له بكلمة نعم، فأخرج من جيبة رزمة من الفئة الخمسة والعشرين وبلا حساب أعطاني نصفها. 

شكرته، وقلت له: هذا دين برقبة الرجال. 

أخذت المال ، ونزلت من العمارة، لكن بقي في نفسي تساؤلا، لم يطلب مني الدخول، واستضافتي بل أراد  صرفي بسرعة، فكرت مع نفسي.

ربّما كانت بمعيته صديقة أو حبيبة له في تلك الساعة؟ 

وقفت أمامه لأسترجع  له  دينه، وموقفه الجميل، كان  المبلغ الذي استقرضته  خمسة عشر الف دينارٍ، في ليلة مظلمة قبل هذا اليوم، كنّا بلا خبز، ونحن مقبلون على شهر رمضان. وكأنّ الجرح قد اندمل، وانتفت الحاجة الى التفكير واللجوء إلى الأقرباء المتخمين  بالثراء الفاحش للطلب منهم، ولكنّ دون أن يسأل أحد عنك. فالحلّ الأمثل أن تصرف، وتهمل من حساباتك الكثير من الأشخاص الذين وطأوا روحك المتعبة.

بدأت أبحث عن سوق جديدة. حتى أنّي حملت كيسا كبيرا (جنفاصا) في كلِّ كيسٍ ثلاثون (تكة) وأنا ذاهب صوب المحافظات. وكان اختياري الأول هو  محافظة بابل.

تعرفت على الكثير، وازدهرت محفظتي بأرقام وهواتف زبائني، وأنا أعمل بذهن مفتوح، ونفسٍ آمنةٍ، وخالية من الخوف، أقسمت في نفسي، أن لا أخترق قوانين البلد مثلما فعلت سابقا، ودفعت ثمنها سنوات عمري. صرت أعمل داخل بوصلة أخلاقية، وبميزان  معياري شديدة الحساسية.

لا أريد أن يوقفني أحدٌ، أو يحاسبني أحد، بل وتوارت من خطواتي فكرة اختراق القوانين التي أجيد التملّص منها، والتي فيها مكاسب سريعة، فأنا في كلّ خطوة أضع أمامي الزنزانة التي خرجت منها، وها أنا أطوف بالحرم زائرا، وتائبا، ومستغفرا، بعدما أفرغت جنفاصي من السكائر.. لم أتخيل أنّي بصفقة واحدة سأبيع كلّ المخزن الذي خولني صاحب المحل على بيعه وحصرها بي. كانت "خمسة آلاف من الكراتين"بعتها كلّها، ولم أتخيّل بأنّي سأمتلك رأس مال قويٍّ  يؤهلني أن أقف في سوق التجار، لأكون بين ليلة وضحاها تاجرا لامعا وأمينا يحيطه الناسُ بالثقة، والمحبة. رغم أنّي صارحتُ الجميع بأنّ السكائر كلَّها استوك. لكنّهم قٓبٓلوا بها، وطلبوا منّي أن  أكفّ عن ذكر، وتكرار كلمة استوك. قالوا أنّها سيجارة عالمية معتقة، كلما مرّ عليها الزمن تتجدد نكهتها.  شعرت  براحة الضمير، وأنا أضع رأسي على المخدّة، يموج في داخلي شعور بالتفاؤل، شعور من إنّني حققت ما دار في خيالي وعقلي الباطني بقدرتي على بيع كلِّ هذه  الصفقة وأحقق حلمي الذي تمسكت به وخططت له، لا أدري لما أتماهى دائما مع شعوري الباطني الذي اسعى جاهدا لتحقيقه، وها أنا قد حققته. لأنام مرتاح البال. حتّى أنّي وخلال ليالٍ طويلة أثناء نومي العميق، كنت أصرخ في منامي سكائر.. سكائر استوك.. استوك.. استوك.