سقوط بيونغ يانغ المزدوج وما حمله من فظائع

مايلز بورك
ترجمة: بهاء سلمان
"كل الطرق المؤدية إلى خارج المدينة كانت مزدحمة بحشود اللاجئين الفارين؛ والقليل منهم فقط كانوا يعرفون أين يذهبون"، هكذا أوردت هيئة الاذاعة البريطانية تقريرها، مصورة جموع الكوريين الشماليين اليائيسن الساعين للهروب من مدينة بيونغ يانغ المبتلاة بانتشار الحرائق صبيحة الخامس من كانون الأول سنة 1950.والتقط "سيريل بيج"، المصوّر السينمائي لهيئة الاذاعة البريطانية، صورا وأفلاما خلال ساعاته الأخيرة قبل مغادرته عاصمة كوريا الشمالية. وبمجرّد سماعه أن قوات الأمم المتحدة الماسكة للمدينة شرعت بالانسحاب، خرج بيج إلى الشوارع لتوثيق حالة الفوضى والخوف مع انتشار الأخبار بأن قوات الجيش الصيني على وشك القدوم.
ومع ظروف شتائية شديدة القسوة، قام المصوّر البارع بتصوير شريط سينمائي للاجئين المذعورين، وهم يحملون ما يتمكنون منه، مع تصاعد أعمدة الدخان من المباني المحترقة الواقعة خلفهم.
مثل الإخلاء المشوّب بالفزع رمزا لتغيرات المقدرات الهائلة التي مرّت بها قوات الأمم المتحدة بقيادة الجنرال "دوغلاس ماك آرثر". فقبل تلك الأوضاع بأسابيع قليلة، تعهّد الجنرال الأميركي لرئيس الولايات المتحدة "هاري ترومان" بأنه مستعد لتوحيد كوريا؛ بينما عمل سقوط مدينة بيونغ يانغ والإنهيار الكامل لهجومه العسكري داخل كوريا الشمالية على إثارة الجنرال ماك آرثر بالتهديد بشن حرب نووية شاملة.
كان الدمار وسفك الدماء بسبب الحرب الكورية قد بدآ قبل ستة أشهر من ذلك التاريخ. وخلال السنوات السابقة لنهاية الحرب العالمية الثانية، كانت كوريا تعاني من خضوعها لاحتلال ياباني وحشي. واقترحت الولايات المتحدة على حليفها أثناء فترة الحرب، الاتحاد السوفيتي، أنه بعد استسلام اليابان، يجب على الطرفين تقسيم كوريا بينهما بشكل مؤقت. كانت الفكرة تدور حول ان هذا الوضع سيساعد على ترتيبات إزاحة القوات اليابانية. وجاء العام 1945 ليشهد فصل القوّتين العظميين البلاد إلى قسمين على امتداد خط ترسيم حدود افتراضي؛ معروف بخط العرض 38 الشمالي. وكان الاتحاد السوفيتي يساند "كيم ايل سونغ"؛ حاكم جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية الواقعة شمالا، بينما دعم الأميركان "أي سينغ مان"، حاكم جمهورية كوريا في
الجنوب.
كراهيَّةٌ متبادلة
ومنذ البداية، لم تقبل أي حكومة من حكومتي الكوريتين الجديدتين النشأة شرعية الطرف الآخر، أو خط ترسيم الحدود. "لم يتم مطلقا الإقرار، وفقا لأي منطق من قبل الكوريين، أن يكون الوضع شرعيا أو جادا. كان الأمر لا معنى له تماما بالنسبة لهم،" كما يقول الدكتور "أوين ميلر" من مركز الدراسات الكورية ضمن كلية الدراسات الأفريقية والشرقية التابعة لجامعة لندن. حاول كلا الزعيمين توحيد البلاد بالقوة؛ ومع حلول سنة 1949، سحبت القوتين العظميين غالبية قواتهما من كوريا، لكن هذا الحال لم يفعل الكثير لتخفيف التوترات المتصاعدة، لتنّدلع صدامات دموية على نحو متزايد على امتداد خط الحدود الفعلية.
ومع فجر 25 حزيران 1950، قام زعيم كوريا الشمالية كيم ايل سونغ بخطوته، فشن هجوما مباغتا بقوة مقاتلة جيّدة التدريب عبر خط الحدود؛ وسرعان ما اكتسحت القوات الكورية الشمالية، المجهزة باسلحة سوفيتية، قوات جيش جمهورية كوريا (الجنوبية)؛ لتتمكن في غضون أيام قليلة من الاستيلاء على عاصمة الجنوب؛ سيئول، مرغمة العديد من السكان على ترديد قسم الولاء للحزب الشيوعي، أو مواجهة السجن أو الاعدام.
وقع الخبر على الرئيس الأميركي ترومان كالصاعقة لمفاجأة سرعة ونجاح الهجوم الكوري الشمالي. ولكونه يؤمن بما يعرف "نظرية الدومينو"، التي تشير إلى أنه إذا سقطت دولة واحدة في أحضان الشيوعية ستتبعها الدول الأخرى، طلب من منظمة الأمم المتحدة، المتكوّنة حديثا، الدفاع عن كوريا الجنوبية. كان الاتحاد السوفيتي سيستخدم حق النقض على هذا المقترح، لكن السوفييت كانوا مقاطعين لمجلس الأمن الدولي آنذاك لرفضهم الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية. ولهذا، تم تمرير قرار في 28 حزيران 1950، يدعو جميع الدول المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة للمساعدة على صد الغزو. وتم تسمية ماك آرثر، الجنرال الأميركي الذي شهد استسلام اليابان خلال نهاية الحرب العالمية الثانية، قائدا للقوات الأممية المشتركة.
تحرّكٌ سريع
كانت الولايات المتحدة أول من استجاب، إذ أرسلت على وجه السرعة قواتها المتمرّكزة في اليابان ضمن محاولتها إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 25 حزيران 1950. بيد أن هذه القوات كانت ضعيفة الاستعداد لمواجهة القوات الكورية الشمالية الأكثر تفوّقا، والتي اكتسحت البلاد بسرعة. ومع تصاعد نيران المعارك، قتل آلاف المدنيين البسطاء من الكوريين الذين تورطوا في النزاع. وبحلول شهر أيلول، وجدت قوات كوريا الجنوبية والأمم المتحدة نفسها ملزمة بالدفاع عن جيب صغير حول ميناء بوسان الواقع على الطرف الجنوبي؛ وكانت كوريا الشمالية تبدو وكأنها على حافة توحيد كامل شبه الجزيرة الكورية. ومن خلال مقامرة طموحة، قرر الجنرال ماك آرثر تنفيذ هجوم مغامر عبر البحر في انتشون، وهو ميناء بعيد يقع خلف الخطوط العسكرية لكوريا الشمالية. ومع توجيه قصف ثقيل بالقنابل، هبطت قوات الأمم المتحدة مساء 15 أيلول 1950، مستولية على الميناء وتقدمت بسرعة نحو سيئول للسيطرة عليها مجددا. وبعدما استعادوا العاصمة، تعرّض عشرات الآلاف من سكانها إلى القتل من قبل القوات الكورية الجنوبية بتهمة التعاون مع الشماليين، فقد سبق لهم أن أقسموا بالولاء للمحتلين السابقين للمدينة. كانت تلك مجرد واحدة من سلسلة أعمال قتل جماعية مفزعة حصلت بشكل عشوائي على طوال مسار الحرب. يقول ميلر: "كان هناك الكثير من المجازر خلال الحرب، ليس على جبهة القتال، بل بعيد عنها، حيث كان الناس يشنقون بسبب الإعتقاد بكونهم من
الخونة."
تمكّنت عملية انتشون من قطع خطوط التموين والاتصالات لجيش كوريا الشمالية، كما تمكّنت قوات الأمم المتحدة من الانطلاق من بوسان وشن هجوم مضاد عنيف. هذا الأمر حوّل حركة الصراع الى جهة معكوسة، إذ أرغم الجنود الكوريون الشماليون على الانسحاب باتجاه الشمال والرجوع إلى ما وراء خط ترسيم الحدود.
نشوة الانتصار
لكن برغم تنفيذه لقرار الأمم المتحدة، كان الجنرال ماك آرثر مصمما على تدمير القوات الشيوعية بالكامل، ليصدر أوامر إلى قواته بملاحقة الكوريين لشماليين عبر الحدود. وبحلول 19 تشرين الأول 1950، استولت قوات الأمم المتحدة على بيونغ يانغ، وكانت تتقدم باتجاه نهر يالو على الحدود الصينية؛ ليتحوّل الوضع الذي كان غاية في الخطورة بالنسبة إلى كوريا الجنوبية قبل عدة أشهر فقط إلى العكس تماما.
كان الرئيس ترومان مترددا بشأن توسيع الصراع الذي من المحتمل أن يجر ليس فقط الصين، وإنما روسيا أيضا، التي كانت بحلول ذلك الوقت قد عملت على تطوير قنبلتها الذرية، والجميع إلى حرب عالمية أخرى. إلا إن الجنرال ماك آرثر كان مقتنعا بكونه يقف على حافة انتصار سريع وحاسم يعمل على توحيد البلاد تحت قيادة كورية جنوبية برعاية غربية؛ وأرسل تطمينات إلى الرئيس بأن الحرب ستنتهي بحلول أعياد الميلاد.
لكن التقدّم السريع لقوات الأمم المتحدة تجاه حدود الصين أثار غضب زعيمها الشيوعي "ماو تسي تونغ"؛ فبسب خشيته من وجود قوة عسكرية غربية معادية على أبواب البلاد، أصدر أوامره إلى الجيش الصيني بالتجمّع بشكل سري على الحدود لملاقاة جيوش ماك آرثر المندفعة بسرعة. وقبل نهاية تشرين الثاني، وبفجائية صادمة، غيّرت الصين مرة أخرى مسار الحرب الكورية. فقد شن آلاف الجنود الصينيين سلسلة هجمات مدمّرة على قوات الأمم المتحدة المتوغلة. ونتيجة لتعرضها لخسائر هائلة ومعاناة من ظروف إنجماد شتوية قاسية، عجزت قوات ماك آرثر عن الاحتفاظ بمساحات كبيرة من المنطقة التي استولت عليها قبل عدة أسابيع فقط، لتسجل معركة نهر تشونغتشون هزيمة نكراء لقوات الأمم المتحدة على يد القوات الصينية، مؤدية إلى إحداث واحدة من أكبر عمليات الانسحاب في تأريخ فيالق البحرية الأميركية، وأكثرها دموية.
التهديد النووي
ومع صعود زخم الهجوم الصيني تم الاستيلاء على مدينة بيونغ يانغ ودحر قوات الأمم المتحدة التي كانت قد سيطرت عليها قبل شهرين، وهكذا وجد سكان بيونغ يانغ نفسهم مجددا وسط خضم العاصفة. ومع عدم قدرته على إيقاف التقدم الصيني الثابت بخطى سريعة، قرر الجنرال ماك آرثر مغادرة المدينة، لتشرع قوات الأمم المتحدة بالتحضير لعملية الإخلاء، وصدرت لها أوامر باحراق التجهيزات والمعدات التي يمكن ان تساعد جنود العدو القريبين من المدينة، الأمر الذي تسبب بإضرام النار في العديد من المباني. ولمعرفتهم بأن الجيوش الصينية والكورية الشمالية تهدد بمعاقبة أي فرد يشتبه بتعاونه مع قوات الأمم المتحدة، فر الآلاف من سكان بيونغ يانغ المنهكين إلى خارج
المدينة.
ووسط طقس شديد البرودة، صوّر "سيريل بيج" هؤلاء الكوريين، مدعوما برعاية من الجيش البريطاني، محاولا بكل ما يتمكّن من إجتياز نهر تايدونغ لأجل تجنّب الوقوع بالأسر حينما تغادر القوات. "بسبب إعطاء الأولوية للعجلات العسكرية، لم يسمح للاجئين بعبور الجسور الواقعة نهر تايدونغ باتجاه جنوب بيونغ يانغ،" بحسب تقرير لهيئة الاذاعة البريطانية. وكان مهندسو الجيش الأميركي قد أجروا تحضيرات تمهيدا لنسف هذه الجسور بعد عبور آخر العجلات العسكرية كمحاولة لإبطاء تقدم الكوريين الشماليين. وواصل التقرير سرد الواقعة: "ومع ذلك، وبسبب هاجس الخوف الشديد بالبقاء في المدينة، ذهب الآلاف إلى حافة النهر. ومن هناك، تم تحضير جميع أنواع المراكب الصغيرة بغية جعلهم يعبرون إلى الضفة الأخرى."
وصدرت أوامر إلى سيريل بيج نفسه بالمغادرة من أحد المطارات قبل غروب الشمس. وعندما وصل إلى المطار، وجد أن الكثير من مبانيه، أيضا، مشتعلة بالنيران، وسط إنشغال قوات الأمم المتحدة بتدمير المواد التي يعتقد بكونها ستصب في خدمة الكوريين الشماليين. يقول تقرير بي بي سي: "مع حلول الظلام، كانت حظائر الطائرات والورش المشتعلة تضيء السماء. وعندما حان وقت منتصف الليل، كانت مئات المساكن المجاورة للمطار تلتهمها ألسنة النيران، أيضا."
عن موقع بي بي سي البريطانية