مبارك حسني
{موت السينما}
بهذا العنوان الاستفهامي الذي يوحي بوجود صراع بين الاجتياح الرقمي الجارف لعالم السينما الذي لا رجعة فيه، وانحسار العمق التعبيري الفني للوسائط التقليدية، نشرتْ مجلة "الألوان الثلاثة" الفرنسية الناطقة باسم مؤسسة الإنتاج mk2 ، مقاولة الإنتاج للعديد من الأفلام القيِّمة، مقالاً دالاً يتناول الثورة التي أحدثتها التقنية الرقمية في مجال الفن السابع. وعلى الخصوص أثرها في تصور العمل السينمائي لدى المخرجين
الكبار.
وهكذا نلاحظ بأنه رغم أن الغالبية العظمى من الأفلام صارت تُنتج وتُصنع وتُعرض بوسائل حديثة تعتمد على تقنياتٍ رقميةٍ بالكامل، توجد قلةٌ من المخرجين الذين ما زالوا متمسكين بالدفاع عن مزايا الفيلم السينمائي التقليدي المصنوع من شريط السيلولويد. على غرار كونتان تارانتينو صاحب الرائعة الفيلمية بيلب فيكشن. فهذا الأخير صرح بأن "الثورة التقنية هي موتٌ للسينما". لذلك لم يتردد، هو شخصياً، في اعتماد الشريط الفضي لتصوير "الثمانية الملعونون"، فيلمه الثامن، وأجبر القاعات السينمائية على عرضه بـ "صيغة 70 ملم بانافيزبون"، التي لم تُستخدم منذ
عام 1966.
ونرى أن هذا الموت للسينما هو عين ما شرحه المخرج كريستوفر نولان، في حديث له عن الصورة المولدة من الكومبيوتر، وردَ في مجلة تليراما الفرنسية. فهي بالنسبة له "أداة قوية للغاية لخلق تأثيرات بصرية جيدة [...] لكن، مهما بلغت درجة تطور الصور المُولَّدة بواسطة الكمبيوتر، ستبدو وكأنها رسوم متحركة، إذا تم إنشاؤها دون أي عنصر مادي (ويعني به واقعي) ولم تقم بتصوير أي
شيء".
ويضيف بأن هذا خداعٌ للمُشاهد. وذلك ما أكده الناقد السينمائي جان لوي كومولي في كتابه {السينما الرقمية والبقاء: فن الزمن }(2019)، حيث قال: "يقوم الرقمي على نطاق واسع بإنتاج الافتراضي، والوهم، والعملات الزائفة. فلم يعد هناك في هذا العالم الهولوغرامي، جسدٌ أو لحمٌ، ولم تعد الأيدي تلامس شيئاً، حتى الجراح نفسها أصبحت زائفة. وهكذا تسلبنا هذه السحابة من الصور الواقعَ، وتفرض تدريجياً قَفْرا للإنسان
والأشياء".
حفظ الذاكرة وجمالية العمق
والحق أن هذه المواقف المنتقدة بحدة، ليست غريبة عن مبدعين سينمائيين لهم رابطة عشق قوية مع السينما كتعبير وكتصور للعالم، بعيداً عن كل نزعة حنينية ماضوية، وحجتهما في ذلك تستند على أن الشريط السينمائي هو جزءٌ أساسيٌ في الفن السابع. وهذا يسير في اتجاه ما فاه به المخرج الكبير مارتن سكورسيزي في مقال بمجلة The Hollywood Reporter "الشريط في السينما هو الوسيلة الوحيدة والأفضل لحفظ الأفلام عبر الزمن". ويقصد تلك المُصورة على شريط السيلولويد، التي تدوم لمئات السنين إذا ما تم الحفاظ عليها، عكس الرقمي المعرض للإتلاف والاندثار بسرعة.
وإلى جانب حفظ الذاكرة التي تعني الحفاظ على التاريخ، يذكر إد لاشمان، أحد أكبر مدراء التصوير، والذي سبق له أن اشتغل مع المخرج الألماني المبدع فيم فندرز، ما يسميه العمق، فيقول: «أعتقد أنه يوفر عمقًا مختلفًا عن التقنية الرقمية. إنه يضفي جودة إنسانية وحيوية على الفيلم. محاولة جعل التقنية الرقمية تبدو كأنها فيلم سينمائي تقليدي هو هدف خاطئ. إذا كنتَ ترسم بالألوان المائية، فليس هدفك هو أن تبدو كأنها رسم زيتي، والعكس صحيح. أنا أؤمن ببساطة أن بعض الأفلام يجب أن تُصوَّر على شريط سينمائي، وأخرى على التقنية الرقمية".
الحد من السينما الرقميَّة
لا يبدو هذا الكلام من صانعي سينما بارزين كمعركة ضد كل ما هو رقمي، بقدر ما هو خوفٌ على ألا يفقد الفن السابع طابعه الإبداعي الذي ينطلق من الإنسان والعالم والوجود الملموس كمادة قابلة للتحول إلى قطع فنية رائعة. هو مثل جرس إنذار كي لا يتحول كل شيء إلى افتراضي خالص، مهما بلغت درجة الرقمي من إتقان. فالذي يجب فعله هو الحد من سطوته وتوجيهه الوجهة السليمة. أي أن يظل الرقمي وسيلة لا غير تُوفر الوقت والمال والجهد على مستوى الإنتاج والتصوير والتوزيع
والعرض.
وذلك ما فعله مخرج "حرب النجوم"، جورج لوكاش، الذي كان أول من وظف التقنية الرقمية (إلى جانب بيتوف مخرج فرنسي لأفلام الدرجة "ب" التي لا يُعتد بها حالياً)، وأجاد فيها بقوة ببناء محكياته الفيلمية المرتبطة بعوالم الفضاء، وصار المدافع اللدود عنها. لكنه، وهذا هو الأهم، لم يستعملها إلا لأنه مخرج مهووس بالكمال.
قال في حوار مع موقع مهرجان "كان" ما يأتي: "بعد الأجزاء الثلاثة الأولى من سلسلة حرب النجوم، قمت بإعادة تعديل أفلامي باستخدام التكنولوجيا الرقمية لإصلاح أو إتمام ما لم يكتمل. يجب أن يكون لأي مخرج الحق في تحقيق رؤيته كما
تخيلها.