شارع “الحمرا”.. صانع الحداثة العربية

يقظان التقي
لطالما كان شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية بيروت عنواناً للثقافة ، والسياحة ، والسفر، والجمال . شارع المقاهي ، والأعياد، والماركات التجارية العالمية، والواحة المفتوحة على الشعر، النقد، المسرح ، السينما ، الفنون التشكيلية الطليعية، التعددية،الجماليات ، الاختلاطات من كل الاتجاهات، والأذواق ، والجنسيات . هذه المساحة تتآكل بما تبقى فيها من حيوات وأضواء حكايات في شارع مديني تحول الى ركام.
تحولات كبرى طرأت على “شارع الحمرا” الشهير في بيروت، غيرت من هويته، حيث أثرت تبعات الوضع الاقتصادي في لبنان بشكل كبير في المنطقة الشهيرة.
شارع الحمرا هو أحد الشوارع الرئيسة ويقع غرب بيروت ويعود تأريخه إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وهو نشط للغاية ومن أكثر المراكز الترفيهية المسائية شهرةً . كذلك هو تأريخياً مساحة تركزت فيها الحياة الفكرية في الحي المصرفي والتجاري، حتى أصبح من أكثر المحاور الرئيسة الثقافية والاقتصادية والدبلوماسية في العاصمة بيروت . واستمر هذا النشاط حتى خلال الحرب الأهلية في لبنان وتنتشر في أرصفته أعداد كبيرة من المقاهي وتوجد فيه المسارح اللبنانية المشهورة فضلاً على انتشار الفنادق والشقق المفروشة ،
فيما يستقطب مجموعة واسعة من الناس ومن مشارب مختلفة وذلك من خلال وجود مواقع لكنائس ومساجد عديدة.
إن تطور منطقة رأس بيروت ومعها شارع الحمرا تسارع مع بدء تأسيس الجامعة الأميركية، وصار “الخندق” شارعاً توسع تدريجياً وأصبح أشهر من بيروت نفسها . سكان الحمرا كانوا قبل العام 1918 يهتمون بالأشجار ويعملون على اصطياد العصافير وبيعها كمصدر عيش لهم، إلى أن أصبحت المنطقة سوق بيروت اليوم بعد أن أعطتها مقاهي المثقفين ، هوية لا تموت، لذلك ترى اليوم أعداد هائلة من الأشجار التي تنتشر في كل مكان من الشارع وتقطع عليك الطريق حينا ، وهي تحاول أن تبقى على نضارة المكان وتفك عزلته.أدت تبعات الأزمة الاقتصادية إلى حمل مظاهر الفوضى والبؤس والتسول، إلى شارع ارتاده كبار الفنانين العالميين في سنواته الذهبية، فتغيرت هويته وهجره رواده، .وأقفلت معظم مسارحه وسكنت شارع فتحول ظلمة وفراغاً وبدلت من هويته، التي قيل فيها يوما إنها منبع الثقافة في المنطقة .نجا الشارع الذي استقطب فنانين ومثقفين وطلبة من تداعيات الحرب الأهلية، ومن الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 ، ومن الحرب الأخيرة . في كل مرة تحول الى شارع مكتظ باللاجئين الذي يغادرونه سريعاً .
قاوم كثيراً . لكنه سقط بعد التحولات الكبرى التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأخيرة، التي شهدت أزمات سياسية ، اقتصادية ، مالية ، قتلت الشارع . أصابته في الصميم، وهو ضرب يوم ضربت بوسطه عين الرمانة المشؤومة . ففقد رمزيته أخيراً ، وتحول الى سوق تجارية ، سوق للباليه ، شارع تجاري عادي مثل شوارع أخرى في “مار الياس “، أو “نيو جديدة “ . كان الشارع مشروع لبنان الثقافي الحديث، يحتوى على أكثر من 15 سينما ، 7 مسارح ، 50 غاليري ، 20 مكتبة ، دور نشر ، مقاهي ، كل ما يصنع الحداثة السياسية ، والفكرية ، والأدبية ونقطة الجذب للعالم العربي . ما عاد اليوم يقوم بالوظيفة التي ينبغي القيام بها ليبقى ممر المدينة . فقد الوهج ، وانكفأت السينما ( ولا سينما واحدة ! ) ، والمقاهي والمكتبات ، والمسارح ، ودور النشر.
لم يعد الرمز الذي يشدّ العالم اليه، ويشار اليه، حيث يشار الى المدينة ككل ، وهو يشغل حيزاً عميقاً في الذاكرة وبمشاعر لا تنضب ، بموقعه بالغ الأثر لدى محبي بيروت ، ممن يصعب حصرهم لبنانياً وعربياً .
شهد الشارع ازدهاراً لا مثيل له مطلع الخمسينات في القرن الماضي، شارعاً متأقاً، راقياً، جميلاً في مقاهيه وأرصفته عنواناً لحرية التعبير السياسية المطلقة ، وعنواناً لمجتمع مفتوح صنعته ذات حين امرأة جميلة ، بمعنى الحرية ، ولكل المتطلعين إلى الثقافة ، والتمدُّن الفاعل، على يد من عبروا إليه ، من المفكرين والشعراء ، والفنانين ، والكتّاب، الذين أصدروا الصحف، والمجلات، وكتبوا المؤلفات ، والموسوعات ، وجسدوا فترة طويلة من اهتمامات المدينة الأخرى بإشاعة الثقافة ونشرها .تغير الشارع كثيراً على الشعراء والكتاب والمثقفين.مقهى “كافيه دو باري” الذي كان يرتاده كثيرون منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته من عشاق “القصيدة” التي كانت تنطلق من طاولة في زاوية المقهى وتعبر من المحيط إلى الخليج، أقفل إلى غير رجعة بعد أن تحول إلى محل تجاري، مفرقاً “عشاق” الكلمة إلى أماكن أقل دفئاً حيث تحاصرها واجهات الثياب العصرية و”ثقافة الاستهلاك” السريع..
وحال مقهى “كافيه دو باري” لا تختلف عن مقاهٍ أخرى سبقته إلى الإقفال في أواسط عقد تسعينيات القرن الماضي. فمقهى “ويمبي” الشهير أصبح أثراً بعد عين وواجهة تجارية، ولحق به مقهى المودكا،وسبقهما إلى الشهرة والإقفال مقهى “هورس شو” الذي انطلق عام 1959 كأول مقهى رصيف في الشارع وتحول إلى أهم ملتقى للمثقفين اللبنانيين والعرب وللسياسيين على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وأحلامهم، ثم مقهى “إكسبريس” و”مانهاتن” و”نيغرسكو” و”إلدورادو” و”ستراند”، و مقاه وحانات وصالات أخرى دخلت في طي التاريخ والماضي الجميل.شارع الحمرا قبل الحرب الأهلية (1975-1990) كان شارعاً نخبوياً و”ذاكرة المدينة وخزانها وروحها في المدينة “لم تعد تشبه نفسها.وانتهاك شارع الحمرا في بيروت لم يشمل فقط مقاهي الرصيف على جانبيه، بل أصاب أكشاك بائعي الصحف والكتب، فتراجع نشاط الباعة ونهم القراء.فقد الشارع قيمته (طوله 1300م) التي اكتسبت من مقاهيه التي كانت منتشرة على جانبيه وأعطته طابعه الخاص، ، وجاءت من تنوعه الهائل وطاولات الشعر، وتحليل ما يدور في العالم من مشكلات وسياسات.
هو شارع الحمرا في بيروت، الذي تحول إلى بيت لمحمد الماغوط ومحمود درويش، ( بقي في الشارع حتى دخل الإسرائيليون بيروت ) ، نزار قباني ، أدونيس ، يوسف الخال ، نازك الملائكة ، بدر شاكر السياب ، فدوى طوقان ، خالدة السعيد ، محمد بنيس ، جلال خوري ، بول غيراغوسيان ، منح دبغي.. إلى مرجعيات تأتي الشارع ، والمقاهي ، الفرد وميشل بصبوص ، جان خليفة ، إيلي كنعان ، حليم جرداق ، أمين الباشا، منى السعودي ، شوشو ، ريمون جبارة يعقوب الشدراوي ، سعدالله ونوس ، توفيق الجبالي ، فاضل الجعايبي ، . وعمر أبو ريشة ،وإنسي الحاج ومحمد الفيتوري،وبلند الحيدري، وغيرهم المئات من الكتاب والشعراء والأدباء اللبنانيين والعرب.
اليوم صار الدخول اليه ، والخروج منه سريعاً ، مؤشراً على سوء الأحوال ، خلف تواري الأضواء ، الألفة ، والأصوات كما حال اللبنانيين، وبعلامات التراجع والتدهور في خطوات كبيرة إلى الوراء . جنون أن لا ترى الى الشارع الا قليلاً ، وعلى قائمة الإلغاء مع جموده وركوده .
نظن أن الشارع فقد الكثير من إرثه المحلي والعربي والدولي ، الكثير ممن صنع فرادته وتمايزاته ، مع انتفاء خيار المدينة الحديثة ، التي ألهمت العالم العربي ، حيث تداخلت التجارب السياسية ، الثقافية ، الفنية ، الاجتماعية المشتركة بين عواصم عدة . شارع يبلغ طوله كلم واحداً ، اتسع بمساحات من حرية الفكر والإبداع ، تزامناً مع العصر الذهبي في الستينات ، بوصفه صانع حداثة العالم العربي، أكثر من الهوية الوطنية اللبنانية نفسها . استطاع الشارع ، أن يحتضن مكونات مختلفة للعالم العربي في مكان واحد ، مما أعطى لبنان مكانته ودوره العربيين ، بفضل ما توفر من مناخ حرية نادر عربياً.
كان “مقهى الهورس شو “ ، واحداً من الامتدادات الثقافية للمدينة، الموصولة بالإضاءة من السوديكو ، إلى البرج ، باب ادريس ، إلى شارع بلس ، والجامعة الأميركية في بيروت ، دار الندوة ،معرض النادي الثقافي العربي ، مقهى مسعود ، مبنى جريدة النهار ، مبنى جريدة لسان الحال ، جريدة لوريان لو جور ، سينما كوليزيه ، مقهى كافييه دو باري ، كافييه دو برس .
ملتقيات ثقافية ، سياسية ، فنية ، في شارع يطرح الحداثة في كل أنواعها ، جمعت مرجعيات اأدبية ، فنية ، وسياسية يسارية ، محمود درويش( بقي في الشارع حتى دخل الإسرائيليون بيروت ) ، نزار قباني ، ادونيس ، يوسف الخال ، نازك الملائكة ، بدر شاكر السياب ، فدوى طوقان ، خالدة السعيد ، محمد بنيس ، جلال خوري ، بول غيراغوسيان ، منح دبغي.. الى مرجعيات تأتي الشارع ، والمقاهي ، الفرد وميشل بصبوص ، جان خليفة ، ايلي كنعان ، حليم جرداق ، أمين الباشا، منى السعودي ، شوشو ، ريمون جبارة يعقوب الشدراوي ، سعدالله ونوس ، توفيق الجبالي ، فاضل الجعايبي ومحمد ادريس.
الشارع الوحيد ، الذي تجد فيه حرية التعبير كاملة ، آخر مساحات النقد. شارع عكس الوحدة العربية الثقافية بين المثقفين والفنانين العرب ، حداثة واحدة ، ومواقف بين بيروت ، القاهرة ، عمان ، المغرب ، تونس . وحدة الأشياء الجميلة ، التي تماهت مع صوت فيروز في البيكاديلي ، ومن نسيج تحولات صعبة سياسية واجتماعية وثقافية . كان الشارع يمكن أن يكون مدينة أخرى ، مدى تجريدي ورمزي مع خليل مطران وسعيد عقل ، وجوزف حرب ، وطلال حيدر وغيرهم ، ممراً الى العالمية، في مدى رؤية غسان كنفاني ، والرسام الكاريكاتوري ناجي العلي ، غسان تويني ، كامل مروة ، سليم اللوزي ، قسطنطين زريق ، إلى ناصيف نصار ، موسى وهبه ، وغيرهم من عديد من الفقهاء القانونيين وعلماء طب ، واجتماع ، واقتصاد . كان أقصى ما يمكن أن يمنحه شارع للعاصمة بين فرح ، وحلم ، وأسئلة ونقاشات ، ورؤى ، ومحاورات ، واختلاطات ، مولدة لمدينة حقيقية . فقدت بيروت كثيراً من قيم الشارع العريق الأخلاقية ، الجمالية ، السياسية ، وضاعت في عتمة المكان ، وفي ذروة الأخطار ، وآخرها انفجار مرفأ بيروت 2020، احتجاجات 2019، ، ناهيك عن وباء كورنا ، وتحولات صعبة صنعت ركاماً من الطبقات ، ألحقت ضرراً في روح شارع ضائع