حب

ثقافة 2025/02/12
...

ترجمة: جودت جالي 


كتبت الآنسة فيرا براون اسمها على السبورة، حرفاً بعد حرف، بطريقة بالمر البيضوية التي لا تشوبها شائبة. كانت فيرا معلمتنا في الصف الخامس، وربما كان اسمها محفوراً في ذاكرتنا كالحفر على الصخر. بينما كانت تنادي بالأسماء في السجل كان صوتها لطيفاً لطافة التعبير في عيونها الجميلة بلونها البني القاتم. ذكرتني بزهرة الثالوث. عندما نادت على (ألفن أهرن) ليجيب قال :” أعرف ولكني لا أستطيع القول”، ضحك الطلاب في الصف ضحكاً مكبوتاً ولكنها قالت مشجعة :” حاول!”، وانتظرت لتتأكد من أنه لم يعرف الجواب ثم قالت لأحد الذين يلوحون بأيديهم في الهواء :” قل لألفن كم هو الخُمْس من الثلاثة أثمان”.

إذا وصلنا متأخرين الى المدرسة، حمر الوجوه، متقطعي الأنفاس، ومندفعين لنعتذر الاعتذار الذي فكرنا أثناء الطريق في قوله لها، فإنها تقول قبل أن نستطيع التكلم :” أنا متأكدة من أنكم لم تستطيعوا عدم التأخر. اغلقوا الباب رجاء واجلسوا”، وإذا أبقتنا بعد الدوام فليس لكي توبِّخنا بل لتساعدنا على تجاوز الجزء الصعب.

ترك أحدهم يوماً تفاحة حمراء كبيرة على منضدتها  لتجدها عندما تأتي الى الصف، فابتسمت عندما رأتها ووضعتها داخل المنضدة، بعيداً عن النظر. ترك آخر زهرات النجوم أرجوانية اللون فوضعتها في كأسها الخاص للشراب. بعدها ظلت الهدايا تأتي. 

كانت المعلمة الوحيدة الجميلة في المدرسة. لم تطلب منا أن نكون هادئين أو نتوقف عن رمي المماحي، ولم يخطر على بالنا أن نفعل أي شيء يثير استياءها.

أخيراً احتال أحدنا لنحتفل بيوم عيد ميلادها، وفيما كانت خارج الغرفة صوّت الصف لشراء هدية ورود لها من المشتل، ثم صوتوا تصويتاً آخر وفازت فيه البازلاء الحلوة لأن تكون هدية لها أيضاً. 

عندما رأت علبة بائع الزهور تنتظرها على منضدتها قالت :” أوه؟”.

 قلنا جميعاً :” أنظري في الداخل”. بدت أصابعها الرقيقة وكأنها ستظل الى الأبد تفتح الشريط . أخيراً رفعت الغطاء عن العلبة وصاحت صيحة إعجاب.

صحنا :” اقرئي البطاقة!”، وكانت هذه البطاقة تقول “ تمنيات بأعياد ميلاد سعيدة للآنسة فيرا براون، من الصف الخامس”. 

قربت أنفها من الورود وقالت “ أشكركم جميعاً شكراً جزيلاً”، ثم حولت انتباهنا إلى درس اللفظ لذلك اليوم. بعد المدرسة صحبناها الى وسط المدينة على نحوٍ جماعي لحضور عرض لفيلم د. دبليو. غريفيث (قلوب العالم). لم نسمح لها بأن تشتري بطاقة بل دفعنا نحن كل شيء.

قصدنا أن تكون هي معلمتنا الى الأبد. نوينا أن نعبر الصفوف السادس والسابع والثامن إلى الثانوية وهي معنا. غير أن الذي حصل هو أننا ذات يوم وجدنا بدلاً منها معلمة بديلة. 

توقعنا أن تعود معلمتنا الحقيقية في اليوم التالي ولكنها لم تأت، ومضت أسابيع واستمرت المعلمة البديلة بالجلوس إلى منضدة الآنسة براون وهي تنادي علينا للإلقاء وتعطينا أوراق اختبارات ثم تعيدها الينا وعليها درجات، وواصلنا التصرف بالطريقة نفسها عندما كانت الآنسة براون موجودة لأننا لم نكن نريدها أن تعود وتجد أننا لم نكن لطفاء مع بديلتها.

تنحنحت صباح يوم اثنين وقالت بأن الآنسة براون مريضة ولن تعود لباقي الفصل الدراسي.

نجحنا إلى الصف السادس في الخريف ولم تزل هي غائبة. 

عرفت أم زميلنا (بيني آيريش) بأنها تسكن مع عمة وعمٍّ لها في مزرعة على بعد حوالي ميل خارج المدينة، فركبنا أنا وبيني على دراجتينا ذات يوم عصراً وانطلقنا لرؤيتها، وعند المكان الذي ينعطف فيه الطريق الى مقبرة أراضي شوتوكوا كان يوجد مستودع أحمر وعليه إعلان سيرك ضخم يظهر فيه كل ما في داخل خيمة سيرك سيلس-فلوتو وكل ما يحصل في الحلبات الثلاث، وقد كنت سابقاً في وقت الصيف فيما أنا راكب في المقعد الخلفي لسيارة أبي شالمرز المكشوفة أتلع رقبتي ونحن نمر بذلك المنعطف، آملاً أن أرى كل نمر وفنان بهلوان، ولكن ذلك لم يكن ممكناً أبداً. 

بدا الإعلان يوم ذهبنا لزيارة معلمتنا وقد خربه الطقس طوال هذه المدة وأحاله إلى شرائط متدلِّية. كان الظلام يحلُّ عندما ارتقينا بدراجتينا مجاز بيت المزرعة حيث تسكن الآنسة براون.

قال بيني :” أنت أطرق الباب”.

قلت له :” كلا، أنت أطرقه”.

لم نفكر مسبقاً كيف ستكون رؤيتنا لها، ولم نكن لنتفاجأ لو أنها جاءت إلى الباب ورفعت يديها عالياً تعبيراً عن دهشتها وهي ترى من جاء اليها، ولكن بدلاً من ذلك فتحت لنا الباب امرأة أكبر سناً وقالت :” ماذا تريدان؟”. 

قلت :” جئنا لرؤية الآنسة براون”. أوضح بيني قائلاً :” نحن في صفها بالمدرسة”.

استطعت أن أرى أن المرأة كانت تحاول أن تقرر إن كان يجب عليها صرفنا، ولكنها قالت :” سأرى إذا كانت تريد رؤيتكما”، وتركتنا واقفين على الرواق لما بدا لي وقتاً طويلاً، ثم ظهرت مجدداً وقالت :” يمكنكما الدخول الآن”.

استطعت على الضوء الخافت ونحن نتبعها في المجاز الأمامي أن أتبين أرغناً عتيق الطراز كالذي أنتم معتادون على رؤيته في الكنائس الريفية، وغطاء اللينوليوم على الأرضية، وكراسي صلبة غير مريحة، وصوراً عائلية خلف زجاج مقوَّس في أطر بيضوية كبيرة. كانت الغرفة التي بعدها مضاءة بمصباح زيت الفحم ولكنها أكثر عتمة من الغرفة غير المضاءة التي مررنا عبرها للتو. 

كانت معلمتنا مسندة بوسائد في سرير كبير ثنائي، ولكنها كانت متغيرة جداً، ذراعاها بنحافة العصي، وبدا لي أن كل ما فيها من حياة  قد تركز في عينيها اللتين أحاطت بهما دائرتان سوداوان ومتضخمتان.

تدبرتْ أن تُظهر لنا بعض التقدير لعيادتنا لها ولكن أصابني بالخرس إحساسي بأنها لم يبدُ عليها السرور لرؤيتنا. لم تعد تنتمي الينا، بل إلى مرضها. قال بيني :” أتمنى أن تكوني بصحة جيدة عاجلاً”. 

كانت هي ذلك الملاك الذي عرفناه وهي تراقبنا، نحن الصبيين الصغيرين اللذين يعرفان ولكنهما لا يستطيعان القول، بأنها أبدت اهتماماً بأن لا نلمس شيئاً ونحن واقفان عندها خشية أن تصيبنا عدوى، وخلال دقيقة كنا خارجاً، على دراجتينا، نسوق خلال الغسق نحو المنعطف في الطريق إلى المدينة.

قرأت بعد بضعة أسابيع في (لينكولن إيفننغ ستار) بأن الآنسة براون التي علمت الصف الخامس في المدرسة المركزية قد توفيت من السلّ وهي في سن الثالثة والعشرين وسبعة أشهر.

كنت أحياناً أذهب مع أمي عندما تضع زهوراً على قبري جديّ. 

يتلوى الطريق الرمادي خلال المقبرة بشكل تفهمه هي ولكني لا أفهمه، وأقرأ الأسماء على الشواهد : براور، كادوالادار، أندروز، بيتس، ميتشيل، في الذكرى الحبيبة لفلان ، ابنة فلان الصغيرة، زوجة فلان الحبيبة. 

كانت المقبرة واسعة جداً وقد دفن الكثير من الناس فيها، ويحتاج الاستدلال على قبر معين إلى وقت طويل إن لم تكن تعرف مكانه مسبقاً.

لكني أعرف، بأن المرأة العجوز التي سمحت لنا بدخول البيت والتي تولت العناية بالآنسة براون خلال مرضها الأخير، تذهب إلى المقبرة بانتظام وتسكب الماء القديم من الوعاء المعدني الذي يستقر على قبرها بين الأعشاب وتملأه بماء جديد من حنفية قريبة وترتب الزهور التي جلبتها بطريقة تسرّ عيون الحي المبصرة وعيون الميت المغمضة.


That glimpse of the truth , David Miller

*سبق أن ترجمنا لوليم ماكسويل قصة (الرجل العجوز عند معبر السكة)، ملحق الصباح 23 تشرين الأول 2024