حوار الفلسفة والسلطة

ثقافة 2025/02/12
...

حازم رعد


تحدث مؤرخو الفلسفة كثيراً عن الصراع الناشب تاريخياً بين الفلسفة من جهة, و السلطة من جهة أخرى “سلطة الدولة وسلطة المؤسسة الدينية وسلطة العادات والسائد” ولعل هذه الدلالة هي أول ما يتبادر إلى الذهن حينما يُطلق مصطلح صراع بين الفلسفة والسلطة.

 وقد شهد التاريخ نماذج عديدة ومريرة على هذا الصراع الذي راح ضحيته العديد من الفلاسفة بين مقتول مثل “سقراط وبرونو” وبين مشرد ومنفي مثل “أفلاطون وانكساغوراس” وبين مهدد ومن يعيش النكبة والخيبة مثل الملا صدرا وابن رشد وأمثالهم العديد من الأسماء المهمة في تاريخ الفكر والفلسفة، ولكن ليست العلاقة بين الفلسفة والسلطة دائماً قائمة على الضدِّية والصراع المستمر الذي لا هوادة ولا هدنة فيه ، فذلك وإن كان صحيحاً بنحو السالبة الجزئية إلا أنه ومن خلال تتبعنا لفجر ميلاد الفلسفة في لحظتها التاريخية وفي نشأتها الأولى كنتاج للمدينة الإغريقية القديمة قد ارتبط نشوئها وتطورها في “الأغورا” التي كانت تشكل وتمثل السلطة آنذاك في مجتمع دول المدن ، والأغورا هذه هي الساحات العامة التي يجتمع فيها أحرار أثينا والتي مكَّنت من إبداء الرأي في شؤون وقضايا عامة مختلفة “سياسية واجتماعية واقتصادية وحتى قضائية” فيمارسون فيها لوناً من العمل السياسي والسلطوي ، وكذلك أسهمت بتثبيت حرية إبداء الرأي الآخر المضاد وطورت الحسَّ النقدي المدعوم بالحجج والبراهين ما يعني نشوء الاستدلال واستخلاص النتائج مع أدلتها فقيمة الفكرة بأدلتها والنتائج بمقدماتها ، ناهيك عن أجواء الحرية التي سادت في المدينة اليونانية القديمة التي فسحت المجال أمام التفلسف بالتطور والتقدم ، فالعلم والفلسفة ينموان في جوِّ الحرية والسلام الذي تتبنى الدولة - السلطة إرساءه وتهيئة مقدماته ،وهناك فكرة علَّها غائبة عن الكثير من الناس هي إن الفلسفة تمدُّ الدولة بالمفردات والمفاهيم الجديدة التي من شأنها أن تطوِّر عمل الدولة وتوسع رؤيتها وتتقدم بوجهات نظر تشكل “ايديولوجيا” السلطة أي تنمية البعد العملي “براديغم الممارسة” فالفلسفة كما يرى التوسير بالنسبة للفلسفة كالنظرية في حقل السياسة ، الدولة المدنية وأشكال الأنظمة العلمانية والديمقراطية والاشتراكية والليبرالية والدولة القومية والدولة الأمة والنظام متعدد الثقافات كلها نتاج الفلسفة وارتبطت هذه النظريات والأفكار بأسماء فلاسفة ،فلم تكن الفلسفة قط بعيدة عن هاجس السلطة فهي على طول التاريخ طمحت إلى أن يحكم الفلاسفة البارعون للدولة ونجد نموذج ذلك في أفلاطون الذي أولى  أهمية كبيرة للمدينة الفاضلة والحاكم الفيلسوف والعدالة وتحقيق الحكم الأمثل حتى وصل به الأمر إلى أن يضيق به أحد حكام مدن الإغريق القديمة وينفيه منها بل باعه في سوق النخاسة عقوبة له لأن أفلاطون كان لا يكفُّ عن نقد أشكال الحكم التي يرى فيها تكرار الأخطاء والوقوع في الأغاليط والتي تسوء إدارتها وغير ذلك ،

كذلك كان هاجس أرسطو طاليس وهو مستشار الإسكندر الأكبر الذي رافقه في حروبه وفتحه لبلدان العالم القديم أن يصحح مرامي الحاكم ويصوِّب أعماله وسياسته ، كان الهاجس الأكبر عند أرسطو هو أن تقدم الفلسفة الاستشارة والاستنارة العقلية للحاكم وتوجه سياسته بالشكل اللائق حتى يقلل من هفواته ولا يقع في المحاذير ،فمن رأي أرسطو في فلسفته السياسية وتدبيراته للمدن هو أن توزيع مهام الحكم ضمانة من التسلط والدكتاتورية فإن مجرد تقسيم الحكم إلى الاستشارة والقضاء والإدارة كفيل بمنع الاستبداد والاستئثار بالسلطة على حساب الآخرين ، كذلك إن اختيار أُناسٍ متخصصين ومهنيين يتولون إدارة شؤون مؤسسة الدولة يجعلها تسير بانتظام وتُكلَّل مسيرتها بالنجاح كما أن إعلان الديمقراطية المبدأ الأساس للنظام يجعل النظام غير حكر على فئة أو طبقة معينة وبذلك تحقق الفلسفة أو استشارتها الغاية المثلى وهو التوجيه الصحيح وتقديم الفكرة الناضجة للسلطة و الحاكم لممارسة نشاطه بالصورة المناسبة والصالحة ، وذلك للإمكانية الكبيرة التي تكتنزها الفلسفة وقدرتها على ذلك فهي على طول التاريخ تفوقت في اجتراح الأفكار وتجديدها وتطوير المفاهيم ونقد الأخطاء ومراجعة النظريات وتصحيح الممارسات وما إلى ذلك من وظائف تُعهد إلى الفلسفة وتعبر عن صميم مهامها الكبرى التي تضطلع بها ، إذن فليست الفلسفة بحثاً يقتصر على تناول نظرية الوجود ونظرية المعرفة والاهتمام بالميتافيزيقا والاقتصار عليها “وإن كانت هذه المباحث تشتمل على قدر كبير من السياسة وبحث السلطة وأهميتها فالفلسفة في جانبها العملي تدبر المدن وتحقق مبادئ السياسة وتقدم عنها التصورات والرؤى” بل هاجس الفلسفة الأكبر هو النظر في فعل السلطة ومحاولة الوصول اليها وتقديم أمثل نموذج للحكم أساسه أنه ردة فعل على تردِّي أشكال أنظمة الحكم وفشلها فتجيء  الفلسفة بمتاعها وتقدم طروحاتها كآخر الحلول أو أفضلها وأجودها فهاجس السلطة ومحاولة تصحيح مسارها هو من مسؤولية الفلسفة وليس خارجاً عنها ،ولذا نقول إن العلاقة بينها “الفلسفة والسلطة” متواشجة بأواصر قوية وأن تبادل التأثير بينهما وقعه كبير جداً فكلاهما يأخذ من كلاهما ويمدان بعضهما بما يحتاجانه ، يقول الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة [ والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون كلها على تتميم حياة الحيوان وعلى حفظها عليه  وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى وفيها عضو واحد رئيسي هو القلب ] فالمدينة الفاضلة والعقل ونتاجه الفلسفي جزء منها في مساق واحد يكمل بعضه بعضاً ويشدُّ بعضه بعضاً وصولاً إلى تحقيق الانسجام والتوافق ، فلم تكن الفلسفة يوماً من الأيام بعيدة عن السلطة لا أقل من الناحية النظرية وإبداعها للمفاهيم والمقاربات وإجراء النقد البنّاء الذي يحاول إصلاح الإعوجاج والأخطاء وتغيير الوضع السائد إلى وضع آخر أفضل منه ، ففضلاً عن الصراع الدائر بين الفلسفة والسلطة في محطات تاريخية معينة هناك حوار وانسجام وتواصل بينهما وبفضل ذلك التواصل تستفيد الدولة من مفاهيم الفلسفة ومقارباتها ومن مشورتها وكذلك تستثمر الفلسفة أجواء سيادة الحرية والتسامح وقبول المختلف لتنمية إمكانياتها وتطوير قابلياتها وممارسة نشاطها بالشكل الذي يطورها ويثريها بالجدة ، فمثلاً أنه قد ارتبطت الديمقراطية وهي أفضل أشكال الحكم الممكنة بفلاسفة اليونان القديمة وارتبط نشوء الجمهوريات في الدولة الرومانية بمفكريها أمثال سينيكا وشيشرون وماركوس اورليوس كما أن الرأسمالية ارتبطت بآدم سميث وجون ستيورات ميل والدولة القومية ارتباطها وثيق بفيلسوف المثالية الألمانية هيجل ، كما أن الاشتراكية والشيوعية ارتبطت بكارل ماركس وإنجلز وبورديو وتروتسكي وستالين ولينين وغيرهم، كما أن العلمانية كفكرة تفصل الديني عن الزمني ارتبطت بهوليوك والعقد الاجتماعي نتاج فلاسفة العصر الحديث أمثال هوبز وروسو وجون لوك وفولتير ومونتسكيو وديدرو ، كما أن مفردات الدولة متعددة الثقافات “الجماعاتية والاعتراف” وصياغات الدولة المحايدة ارتبطت بتشارلز تايلور وماكلور ، ومفهوم ما بعد العلمانية خصب وظهر مع الألماني يورغن هابرماس ، والقائمة تطول إذا ما أردنا إجراء إحصاء وتقديم بيانات في هذا الخصوص ولكن بشكل عام مكَّنت الدولة من تطوير الفلسفة وكذلك فإن العكس صحيح فقد أسهمت الفلسفة بإمداد الدولة والسلطة بالمفاهيم والصياغات اللازمة والمناسبة لاستمرارية السلطة ، وأظهرت لنا علاقة الحوار والتفاهم بين السلطة والفلسفة عن مفاهيم عديدة يمكن من خلالها إفادة الفلسفة للسلطة لتقويم عملها وتصحيح ممارساتها التي حصلت فيها أخطاء جرَّاء عوامل عديدة منها الجهل والاستبداد وإهمال النقد وعدم الرضوخ لمنطق التجديد فقد برز أمامنا مفهوم الفيلسوف الحاكم الذي تدرَّج من أفلاطون بناءً على فقرة إسناد أمر الدولة للفلاسفة وصولاً إلى الاستشارة الفلسفية والاستنارة بآراء أهل الفكر والاستنارة بآرائهم ، وإلى محاكاة المحافظين الجدد والمراكز البحثية التي تمدُّ الدول والبلدان بالآراء والتوصيات التي من شأنها أن تطور العمل وتخطط لتفادي الأخطاء في مستقبل كل تجمع سياسي ،والحوار الذي نحن بصدد الكلام عنه ليس الجلوس على طاولة النقاش ومقابلة من يمثل أطراف السلطة وإنما هو عملية إفادة من تجارب الفلسفة والخبرات التي اكتنز عليها الفلاسفة والعمل بها بشكل جاد وحقيقي ، إذن هناك نوع من الحوار والإفادة وتبادل منفعة بين الفلسفة من جهة وبين السلطة فليست العلاقة سالبة بنحو كلي ودائم بل هي علاقة تتخلها لحظات وئام وتفاهم وانسجام وهكذا هي تجارب الحياة كلها وليست مقتصرة فقط على العلاقة بين الفلسفة والسلطة.