عادل الصويري
هذا السيل من القصائد والنصوص الشعرية، في الكتب الصادرة، أو المجلات الدورية والصحف اليومية، أو في وسائل التواصل الاجتماعي مقروءةً أو مرئيةً؛ هل حققت الشعرية؟ أو الغاية من الشعر؟
الشعرية الحقيقية هي التي تقولُ كلامًا يُحدِثُ أثرًا فاعلاً وملموسًا. القادرة على استنطاق العالم وإنطاقه في ذات الوقت، وهذا غير متحقق حالياً. إذًا، نحنُ أمام ألفاظ لا قصائد. ألفاظ منتظمة في زمنٍ يُسمّى عبثًا زمنًا شعرياً.
لا يُمكن للشعر الوصول، أو حتى ادّعاء الوصول فهذا ضرب من العبث. سر الشعرية يكمن في البحث والتقصي عن ماهية الأشياء، وتحريك القناعات، وجعلها بالشعر علاجًا لا مرضًا.
الشعر الحالي ليس شعرًا كما يجب، فهو يُقال عبثًا بتوقيتاتٍ عبثية. لا يُساهم في تقديم رؤية حقيقية متجردة، ولا يُحرض المشاعر، ولا يُثَوِّرُ الأحاسيس، بقدر ما يُرسخ الانفعال اللفظي مدعومًا بظاهرة صوتية اعتاد عليها تراثنا الشعري حد الإدمان، وبأشكال سطحية تقليدية في غاية السذاجة. بل يُخَيَّلُ لي أنَّ للشعر الحالي فعلًا مُسْكِرًا يجعل صاحبَ الفعلِ حياديّا بشكل يُخْجِلُ الإنسانيةَ من ركودِهِ ولا ابتكارِه، وليس له أن يتخيّل الحصى التي يمكن أن يُحرِّكَ بها هذا الركود، ولو على سبيل الافتراض.
وبالمُقابل، نرى محاولات التجديد والابتكار هي الأخرى مُصابة بذات المرض اللفظي المتحول إلى زمن موهِمٍ بالتجديد، فنحن نحيا الزمن اللفظي الذي لا يقول شيئاً ولا يطرح أسئلةً من أيِّ نوع. يقدم الهذيانات الكلامية المجانية؛ ليوهمنا أنها استفهامات عن الوجود والعدم، الطين والنار، الحياة والموت، الخير والشر، وغيرها من الثنائيات الوجودية الملتبسة. ألفاظ، مجرد ألفاظ لا تنفذ إلى العمق، ولا تتسلق الأعالي. مهمتها الاقتراب من الذي قيل سابقًا وبذات الصدأ، ولا تريد الاجتهاد في قولِ كلامها الخاص؛ حتى صار لها هوسٌ بمسايرة القديم، واستدعائه؛ لعدم قدرتنا على فهم الحاضر بعيدًا عن التحصينات الماضوية. لا نستطيع التفكير في الطمأنينة والسكينة الداخلية؛ لأننا خارجيون مشغولون بالخارج دائمًا. صار الخارجُ فوبيا لذيذة تقيم معنا، وتشاركنا كل لحظاتنا.
المشترك الوحيد بين القديم والجديد في شعرنا المعاصر، هو الألفاظ الكثيرة التي لا تقول شيئاً. لسنا اليوم في وارد التمييز بين خصائص هذا أو ذاك، أو معرفة هذا من ذاك. القديم والجديد لهما زي واحد، وهو الزي اللفظي الذي بدأ يُفرض كقناعة راسخةٍ على القارئ المسكين الذي يسأل في نفسه عن المعايير والمقاييس المفروضة عليه، وهنا لابد من الاشتغال الجدّي على خلق قرّاء خلاّقين يقرأون الشعر لا ألفاظه. قرّاء بمقاييس تنطلق من ذواتهم وفهمهم للحياة، مؤمنين بزمن الانفلات من اللغة المستهلكة، إلى اللغة المتمردة والمتوهجة بفعل عالمٍ حِسِّيٍّ متشكِّلٍ وجوديّاً، ومتسرِّبٍ بانتظامٍ في البهجةِ والأسى، في الامتلاءِ والفراغ، في الفلسفةِ والغناء. هو عالمٌ، يُذوِّبُ الشيءَ في نقيضه. لم يكن هذا العالمُ سوى اللغةِ، بِكُلِّ ما يضيءُ في مساحاتِها الشاسعةِ من نجومِ الدهشة، فهي سماءُ النص، وفضاؤهُ المفتوح. لغة مغامرة، تسكن صورة الواقع، ثم تلتقطها بفوتوغراف مليء بالخيالات المنتمية للإنسان وجوهره الثمين، والحياة بحميمية هائلة، تُشكِّلُ العوالمَ المرئيَّةَ والمحسوسةَ، والتي بدورها تهيئ للتأمُّلِ البعيد عن الجهوزية المتوارثة، والقريب من الكشف عن كلِّ ما هو ناءٍ ومستغلق.
هذا النوع من القرّاء الخلاّقين، هو الذي سيكون حارساً على الجوهر الإنساني للشعر كونه يجيد قراءة الشرارات المجهولة والعميقة في الكلام الشعري الذي يتحرك في المكان الواقع بين واقعٍ ومتخيل مما يجعله بفعل هذه الحركة ينتصر على الرتابة المنتظمة لفظياً بالفوضى الحكيمة المبتكِرة، والغامضة الوامضة.