زهير الجبوري
اتضحت تجربة التشكيلي العراقي المغترب ماضي حسن على قدر كبير من الامساك بثمات تبدو هائمة في المعنى العلاماتي، فقد أنذرت اعماله الدخول إلى مستوى الافتراض الشكلي، بمعنى الدخول في منطقة "التنميق" واشكالية الرؤيا للمضمون المطروح، وهذا ما يجعل المتلقي مستوقفا ومتأملا، ولا أدري أن كان لديه قصدية الغور في عوالم العلامات الراكدة التي تظهر عبر مخيال ذهني، أو عبر ترسيمات افتراضية لأشكال غير مألوفة أو متجانسة مع طبيعة الإنسان.
أعمال الفنان ذات نزعة مخيالية خاصة، وهنا لا أعمم بقدر ما أشير إلى أبرز ما كانت عليه لوحاته في لا محدودية الانتماء إلى موضوعة تشكيلية معينة، ولم تكن ذات بُعد إجرائي تتآلف مع ما يطرحه غيره من فناني جيله، لذا جاءت ترسيماته بإطار ما هو مطروح من شغف الثيمات المستعارة وطريقة طرحها بأدائية معينة، والملفت للنظر أنَّ الفنان ماضي حسن ذاته يشير إلى ذلك بأنها تمثل "الرؤيا الكونية التي لم نصل إلى ارضيتها، يمكن سحبها واستخدامها في عالمنا التشكيلي"، مشيرا أيضا إلى أنها "سوريالية فكرية ترتبط بخيال وأسرار الكون"، وقد تثير هذه التجربة اسئلة غاية الأهمية، قد تصل إلى فتح شفرات علمية جديدة لم يصلها الكثير من البشر، وهنا يأتي دور الّلوحة في فتح مغاليق العوالم الأخرى البعيدة عن تفاصيل حياتنا المألوفة والمعهودة بكل أشيائها المتناولة، ولعل الّلوحة التي تفتح وتثير الأسئلة، تحمل فكراً وفلسفة دقيقة وخاصة، لذا اكتسبت ـ أي لوحات الفنان ـ عزلتها عبر تفردها الواضح وقراءة التفاصيل المستدعاة ذهنيا قراءة منسرحة ومشحونة بدقائق صريحة.
ما يمكن الأمساك به أيضا، أنَّ مفهوم "المقترح الجمالي" في اللوحة هو مفهوم أخذ على عاتقه الفنان ذاته واشتغل عليه بوصفه كسرا لما هو مألوف في انشائية اللوحة، وعلى الرغم من قناعته في طرح هكذا تجربة فيها أشياء جامدة تبحر في عوالم غير عوالمنا، إلاّ أنه كرس تسميتها بـ "السوريالية"، غير أنها تنحو منحى الاغتراب عبر النزوع إلى منطقة خارح مألوفيتنا، وعلى قدر كبير من ذلك نلمس مساحة الترحال والانتقال إلى واقع يقلق المنظور أولا، والتلقي ثانيا، إنما ينطوي على لعبة أدائية مغرية عبر مهارة الألوان وتكريسها وفلسفة استخدامها، ولا ضير في جعل الّلوحة عالم تغور فيه الأشياء عبر كشوفات يرغبها الفنان ويمضي قدما في كشفها عبر مشروعه التشكيلي، حيث الرسومات التي تثير صمتاً أو بالأحرى خالية من الحياة/ صاخبة في صمتها/ وحيدة في نشأتها، إلاّ أنها بقيت داخل حدود الأطار التشكيلي عبر الاحتفاظ بخصوصيتها الفنية.
تتمظهر قوة الأشكال في أعمال ماضي حسن في الضربات الّلونية وطريقة استخدامها، وهي من أهم السمات التي ركز عليها لطرح مشروعه الفني/ التشكيلي، حيث تثيرنا تراكم الأشياء المطروحة عبر مشهدية تبدو للوهلة الأولى منظر من عالم المجرات الأخرى، ولأنه غير متداول في فننا التشكيلي ـ كما اعتقد ـ فقد أثاره وقدمه بالتجربة التي ركز عليها لسنوات طويلة، لكنه يجانس هذه التركات البعيدة عبر تكريس ضربات ثيمية تساهم في خلق منظور فيه قبولية، بمعنى إضافة ما تعطيه جمالية التلقي، حيث الأماكن التي فيها أشكال متداخلة على ارضيتها للمرتفعات والأحجار المدورة كالكرات، تنبثق فيها شجرة أو زهرة أو عين رسمت في سماء المكان، أو شخوص أو غير ذلك من الإضافات التي تنبأ إلى أن هذه الأماكن لها خصوصيتها الجامدة، لكنها تُخلق من جديد عبر الأسلوب الفني ذاته.
ولأنَّ أجواء هذه اللوحات تبعث روح الاغتراب، فقد لمسنا كيف انَّ الألوان وظفت بمهارة الأداء واختيار ما يؤثر في النفس من مشاعر هائمة في حليمة غريبة، لنقف عند محطة الاقتفاء الاغترابي تبعاً للتراكم الهائم والضاغط على النفس "نفس المتلقي"، وهي لعبة سايكو جمالية، ربما لها جذور في تركيبة الفنان ذاته، ولا أدري إلى أيّة نزعة نفسية جعلت منه يغور في هكذا تفاصيل من الأعمال؟ بالمقابل نلمس العديد من التجارب التي اشتغلها في ثيمة الجسد والامساك بعلاماته وبالتفاصيل الدقيقة التي تضاف إليه الوشم ونوعيته، وهذا ما يجعله متعدد الاشتغالات بالإضافة إلى الأعمال التجريدية والتعبيرية التي قدمها في مناسبات عديدة في معارضه الشخصية أو المشتركة داخل بلده العراق أو في اغترابه.
التشكيلي العراقي ماضي حسن، طرح تجربته بهذه الطريقة التي جعلت منها إثارة للأسئلة، ما يعطي معنى فحواه أنه يغور في أشياء حسية عالية، فيها هواجس اغترابية قادرة على ملامسة الذوق الجمالي، فهو في أغلب الأحيان لا يقترب من الأشياء التي اعتادها غيره في تكرار ما تناوله الكثير في الساحة التشكيلية، بل العكس من ذلك، فتشكلاته وطروحاته وأدائه يبرهن على أنَّ هناك اشياء كامنة في داخله تهيم في المعنى الروحي كأنها حلمية وغير واقعية، وهذا ما جعله يستمر في مشروعه، لأنه باختصار يشعرك بأن لديه موقف من الحياة ومن الواقع الذي عاشه وأثر عليه، ولا غرابة في ذلك فهو فنان لديه احساسه الكبير.