غرينلاند قد تُشعل حرباً باردة جديدة

بانوراما 2025/02/17
...

 إيشان ثرور

 ترجمة: أنيس الصفار                                          


حين طرح الرئيس "دونالد ترامب" لأول مرة فكرة امتلاك غرينلاند سنة 2019  خلال دورته الأولى بدا الأمر وكأنه مزحة لا أكثر، وقد رفضت الدنمارك، التي تعود إليها ملكية هذه الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، الفكرة رفضاً فورياً قاطعاً. حينها وصفت رئيسة الوزراء الدنماركية "ميتي فريدركسن" آمال ترامب بشراء المنطقة بأنها "مضحكة"، وهو رد فعل وصفه الرئيس الأميركي بأنه "غير لائق" وجعله يلغي زيارة كان مخطط لها إلى كوبنهاغن. وبعد أسابيع من ذلك الحدث خفتت انباء هذا المسعى الغريب واختفت من نشرات الأخبار شأنه شأن العديد من الحكايات الغريبة الأخرى في خضم الفوضى العامة التي اتسمت بها ولاية ترامب الأولى.

بيد أن تطلع الرئيس الأميركي للحصول على غرينلاند عاد إلى الأجندة الآن بعد مباشرته الولاية الثانية، ويبدو أنه مصمم هذه المرة على عدم التخلي عن طموحاته بسهولة.

كان ترامب مصرّاً على وجوب بسط الولايات المتحدة سيطرتها على هذه المنطقة نظراً لموقعها الستراتيجي وسط بقعة من القطب الشمالي آخذة بالذوبان، كما أن للصين وروسيا ايضاً مطامح واهتمامات متزايدة. إلى جانب ذلك هناك الثروة الكبيرة من المصادر الطبيعية التي تحتويها المنطقة والتي ترقد كما يعتقد تحت قاع البحر المحيط بغرينلاند وبراريها المثلجة. وحين ظهر "دونالد ترامب" الابن في غرينلاند أواخر العام الماضي، كبدعة دعائية من جانبه، وعد والده من خلال منشور بثه على وسائل التواصل الاجتماعي "بجعل غرينلاند عظيمة من جديد". منذ ذلك الحين أخذ ترامب يصور امتلاك أميركا لغرينلاند بأنه "ضرورة لا بد منها" للأمن الغربي، ثم لم يلبث أن علق لاحقاً خلال حديث مع الصحفيين قائلاً: "باعتقادي أننا سنتمكن من الفوز بها."

قبل تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة أجرى ترامب مكالمة هاتفية مطولة مع فريدركسن أصابت الدبلوماسيين في كوبنهاغن بالصدمة. فقد بدا ترامب، كما أفادت التقارير، رافضاً لجميع العروض التي قدمتها نظيرته الدنماركية لإقرار تعاون أمني واقتصادي أعظم بين بلديهما. قال مسؤول أوروبي كبير في حديث مع صحيفة "فايننشيال تايمز": "لقد كان شيئاً مريعاً." وصرح مصدر آخر اشترط عدم الإعلان عن اسمه خلال حديث مع الصحيفة البريطانية: "لقد بدا في منتهى الحزم معها، وكان الموقف أشبه بزخة ماء بارد. قبل ذلك كان من الصعب تصور أنه يعني ما يقول، لكني أعتقد أن الأمر الآن لا يخلو من خطورة .. بل قد يكون في منتهى الخطورة."


لم يعدّ مزحة

قالت فريدركسن، وفقاً لتقارير الإعلام الدنماركي: "لم نجد أنفسنا يوماً أمام مثل هذا الموقف الحرج أبداً طول حياتي." كان حديثها عن اللحظة الأوسع التي تعيشها القارة الأوروبية، حيث الحرب دائرة بين روسيا وأوكرانيا، بيد انها ايضاً كانت تقصد عودة ترامب المثيرة للارتباك. بعد ذلك تخلص إلى النتيجة فتقول: "ثمة سبيل وحيد للخروج من هذا كله، وهو قيام تعاون أوروبي أوثق وأقوى."

بحلول أواخر كانون الثاني الماضي أعلنت الدنمارك عن حزمة انفاق عسكري تقارب قيمتها ملياري يورو لمناطقها الشمالية، التي من ضمنها غرينلاند وجزر فارو. تضم الحزمة من ضمن ما تضم ثلاث سفن قطبية جديدة مع مزيد من الطائرات  المسيرة بعيدة المدى. وأجرت فريدركسن جولة عاصفة بين العواصم الأوروبية حيث التقت بزعماء فرنسا وألمانيا وحلف الناتو ضمن محاولة لحشد الدعم السياسي. البيانات التي صدرت بخصوص هذه اللقاءات تجنبت بحرص شديد الإشارة إلى ترامب او وضع غرينلاند الجديد المتنازع عليه، لكن ما وراء السطور كان واضحاً لا يخفى. فبعد لقائها بالرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" قالت فريدركسن: "هذه رسالة بمنتهى الوضوح تقول يجب أن يكون هناك بالطبع احترام لأراضي الدول وسيادتها، وهذا جزء حيوي وأساسي من المجتمع الدولي.. ذلك المجتمع الذي شاركنا جميعاً في بنائه منذ الحرب العالمية الثانية."

اما المستشار الألماني "أولاف شولتز" فقد عبر للمراسلين بعد لقائه بفريدركسن مؤخرا عن أسفه قائلاً: "الزمن الذي نعيش فيه مفعم بالتحديات" مؤكداً على ضرورة التقيد بعدم تحريك الحدود بالقوة، على حد تعبيره. ثم أضاف عبارة باللغة الانكليزية كتأكيد على هذه النقطة: "إلى من يهمه الأمر."


ليس غزوا لغرينلاند 

تحتفظ الولايات المتحدة حالياً بقاعدة جوية رئيسية على الجزيرة، وهي تأمل بتعزيز موطئ قدمها عسكرياً هناك بالتوافق مع الحكومات الأوروبية الحليفة، توازياً مع توسيع روسيا والصين حضورهما في القارة المنجمدة الشمالية. 

بيد أن ترامب يأمل بدلاً من ذلك في أن ترضخ كوبنهاغن لصفقة من نوع ما، تشمل حيازة الولايات المتحدة لتلك المنطقة كبادرة كرم لتخفيف اعباء إدارتها عن كاهل الدنمارك.

ثمة سوابق تاريخية كثيرة لهذا. فعلى مدى ما يزيد على قرن ونصف بقي السياسيون الأميركيون يتطلعون بشغف إلى غرينلاند، وكان وزير الخارجية الأميركي "وليام سيوارد"، الذي اشترى ألاسكا في العام 1876، قريباً كل القرب من عقد صفقة مشابهة بشأن غرينلاند لولا تمكن خصومه السياسيين داخل الكونغرس من احباط مسعاه. كان سيوارد يرتأي أنه بضم كلتا المنطقتين الشماليتين إلى الولايات المتحدة سوف تتمكن هذه الأمة القاريّة من محاصرة أميركا البريطانية لآلاف الأميال .. وبذلك تزداد الحوافز عند الأخيرة بدرجة كبيرة للتحول إلى جزء من الاتحاد الأميركي، سلمياً وبكل سرور. بمعنى آخر أنه كان يرى في شراء غرينلاند خطوة تمهيدية لابتلاع كندا.. وهي رؤية لم يتخل عنها ترامب تماماً هو الآخر.

بحلول العام 1917 اشترت الولايات المتحدة، خلال فترة رئاسة "وودرو ولسون"، ما كان يعرف آنذاك باسم "جزر الهند الغربية الدنماركية" (والان باسم جزر فيرجن الأميركية) من الدنمارك. كانت هناك مخاوف جيوسياسية وراء هذا القرار: فقد أرادت واشنطن أن تحكم سيطرتها على منافذ المرور إلى قناة بنما المفتتحة حديثاً، لذا كانت شديدة الاهتمام بدرء أي تمدد ألماني محتمل إلى منطقة الكاريبي فيما لو تعرضت الدنمارك للضم من قبل جارها القيصر.

من خلال تعاملاته مع خصومه وحلفائه على حد سواء يبدو ترامب مصمماً على احياء روح تلك الحقبة السالفة.. حقبة سياسات القوة العظمى الامبريالية، غير عابئ بمعايير حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتحالفات عبر الأطلسي التي انبثقت على مدى سني القرن الماضي. فهو قد هدد منذ الان قائمة تزداد طولا بأسماء الدول - من تايوان إلى كولومبيا ودول عديدة أخرى بينهما - برسوم كمركية عقابية محاولاً الحصول على تنازلات.  يقول "جون كريمر"، الذي كان دبلوماسياً بارزاً لأكثر من 35 عاماً ونائب مساعد سابق لوزير الخارجية: "هذا استغلال عدائي للقوة الاقتصادية الأميركية على نحو لم نعرف له مثيلاً منذ وقت طويل جداً.. على الأقل خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية."


موقف غرينلاند 

تباعد المواقف بين سكان غرينلاند هو الاخر لم يأت في صالح قضية الدنمارك. ففي حين أظهر استطلاع للرأي مؤخراً ان 85 بالمئة من سكان غرينلاند يعارضون الانضمام إلى الولايات المتحدة أبدى كثير من المنتمين إلى الطبقة السياسية في الاقليم استيائهم من الوضع الراهن مفضلين عليه الاستقلال الكامل. وفي خطابه بمناسبة العام الجديد شجب رئيس وزراء غرينلاند "موتي إيجيدي" ما وصفه بأنها "أغلال الحقبة الاستعمارية"، بينما يقيم سكان الجزيرة الذين يقل تعدادهم عن 60 ألف نسمة، ويتألف معظمهم من شعوب الإنيوت الأصليين (أو الأسكيمو)، منذ عقود على أطراف مدينة كوبنهاغن وسط وضع قلق.

يؤكد المسؤولون الدنماركيون، بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه، أن غرينلاند يجب أن تكون لسكان غرينلاند، بيد أن إيجيدي قد يدفع باتجاه اجراء استفتاء على الاستقلال بحلول الأشهر المقبلة. وربما كانت حسابات ترامب قائمة على اساس أن غرينلاند حين تستقل ستكون أكثر استعداداً للالتحاق بالولايات المتحدة.

يقول "جورغن بواسين"، وهو شخصية غرينلاندية معروفة ومن المعجبين بترامب: "الأمر مرهون بالمدى الذي يريد ترامب أن يمضي اليه." مشيراً إلى أن بإمكان غرينلاند كسب الاستقلال ومن بعد ذلك عقد صفقتها الخاصة.

يبدي بعض حلفاء ترامب تحمساً لقبول التحدي، مثل الجمهوري "أندرو أوغلز" الذي طرح خلال شهر كانون الثاني الماضي قانون "لنجعل غرينلاند عظيمة من جديد" الذي يوجه الكونغرس بدعم مفاوضات ترامب للاستحواذ على الاقليم. 

كذلك اقترحت مؤسسة التراث اليمينية أن يكون لغرينلاند نفس وضع المناطق شبه الاستعمارية الأخرى مثل غوام أو بورتو ريكو، أو ان تكون ولاية حرة الارتباط، مثل جمهورية بالاو ضمن أرخبيل المحيط الهادي، التي تعتمد على الولايات المتحدة في حالات الدفاع وتصوت بتلازم ثابت مع واشنطن في الأمم المتحدة.

إلا ان الباحثين "هانز فون سباكوفسكي" و"فكتوريا كوتس" من المؤسسة الفكرية المذكورة يحذران بأن ما يجب ألا تحصل عليه غرينلاند من الولايات المتحدة هو وضع الولاية. لأن ذلك، كما يعتقد الباحثان، ستتبعه اضافة عضوين ديمقراطيين إلى مجلس الشيوخ وعضو ديمقراطي واحد على الأقل إلى مجلس النواب، ومن شبه المؤكد أن هؤلاء سيكونون اشتراكيين على النمط الأوروبي." أما ترامب ورهطه فقد يرون لغرينلاند ما يرون من قيمة، لكنهم قد لا يستطيعون الجزم بشيء بخصوص ناخبيها.