القطاع المصرفي والقواعد الاقتصاديَّة

اقتصادية 2025/02/17
...

د. حامد رحيم جناني




يمكن تشبيهه بشريان الحياة بالنسبة للنشاط الاقتصادي، ولا يمكن التغاضي عن دوره في أي اقتصاد مهما كان ذلك الاقتصاد متطوراً أو نامياً وحتى إن كان متخلفاً، فالنموذج الأول يحتاج لمنظومة مصرفية تدفع عبر نشاطها المستدام لتحقيق النمو الإيجابي في الناتج المحلي الإجمالي، اما النموذج الثاني فللمصارف دور غاية بالأهمية يتمثل بحشد المدخرات وتوجيها إلى الاستثمارات للدفع باتجاه استدامة التحولات التنموية.

 أما الصنف الثالث فعليه أن يفعِّل دور المصارف وتحسين أدائها بالشكل الذي يضمن إيجاد مقدمات التحول والتغيير الاقتصادي للانتقال من براثن التخلف إلى التنمية الاقتصادية المنشودة، فالاستثمارات تحتاج تمويل والأخير من المفترض أن يحققه القطاع المصرفي وهذا ما يستشف من نموذج (هاردو – دومار) الذي يفترض أن النمو الاقتصادي كنتاج للتنمية الاقتصادية يستند إلى العلاقة الطردية بين حجم الادخارات والاستثمارات في الاقتصاد وهذا هو دور المصارف بكل تأكيد.

إن الأدوار سالفة الذكر تتحقق عبر آلية عمل الجهاز المصرفي في أي اقتصاد مع اختلاف نمط عملها، فالمصارف التجارية التي تعمل بسياساتها الائتمانية مستخدمة الفرق الحاصل بسعر الفائدة الدائن والمدين، وتلك الإسلامية منها التي تأخذ نمطاً يستند إلى المضاربة والوكالة والمرابحة والمشاركة والاستصناع، كما تستثمر بعض المصارف التجارية بالأوراق المالية بصنوفها المختلفة.

إن جوهر العمليات المصرفية بمختلف أشكالها يبحث عن تحقيق غرض مهم جداً يتمثل بإيجاد عملية توازن اقتصادية بين الفوائض المالية من جهة والشحِّ المالي من جهة أخرى لكن كيف ؟

بطبيعة الحال هناك أفراد في المجتمع يملكون موارد مالية ولا يملكون فكراً استثمارياً، بالمقابل هناك أفراد ومؤسسات تملك فكراً استثمارياً لكنها بحاجة لتمويل مالي، يأتي الجهاز المصرفي ليمارس دور الوسيط بين الفئتين وعبر سعر الفائدة والسياسة الائتمانية أو أدوات المصارف الإسلامية فيسحب الفوائض المالية ليعيد ضخَّها في الاقتصاد عبر توجيهها إلى قطاع الأعمال، وهنا السرُّ الكامن خلف حالة النمو الاقتصادي وتعزيز المكاسب التنموية والتحول تجاه بدايات التنمية الاقتصادية، ولابد من الإشارة إلى الدور العابر للحدود المتمثل بعملية نقل رأس المال عبر البلدان، كل ما تقدم يعبر عن القواعد الاقتصادية الحاكمة لعمل الجهاز المصرفي.

العراق ومعضلة الجهاز المصرفي، تلك المعضلة التي تبدأ بالعقوبات الدولية الموروثة عن النظام السابق والتي فرضت على أكبر مصرفين وهما الرافدين والرشيد والتي لم ترفع إلى اليوم، ورغم تأسيس العديد من المصارف الخاصة ، فقد بلغ عدد المصارف (79) مصرفاً تتوزع حسب الملكية إلى (8) مصارف حكومية و (71) مصرفاً خاصاً و(7) من المصارف الخاصة فيها شراكات أجنبية، لم يلمس المراقب للوضع الاقتصادي دوراً تنموياً للجهاز المصرفي بلحاظ الوضع الاقتصادي العام الذي يهيمن عليه النمط الريعي وفقاً لمؤشرات التنوع الصادرة من وزارة التخطيط فالقطاع الصناعي التحويلي يُسهم بمعدل نسبة (2بالمئة) فقط والزراعي (5بالمئة) فقط وغيرها من النسب المتدنية من المساهمات الأخرى والنقطة الأهم تتمثل بأن معدل نسبة ما يحتفظ به القطاع المصرفي من النقد المصدر من قبل البنك المركزي لم تتجاوز (12بالمئة) فقط والباقي نقد في التداول لم ينجح القطاع المصرفي في استقطابه، وهذا الأمر يعكس ضعف الثقة بالجهاز 

المصرفي. 

إن أهم المؤاخذات على المنظومة المصرفية يتمثل بالعقوبات الدولية المفروضة، إذ بلغ عدد المصارف المعاقبة عام 2023 (14) مصرفاً وشملت العقوبات قبلها (4) مصارف أخرى.

رغم الجهود الرامية لمعالجة الخلل في الجهاز المصرفي كالمحاولات الحكومية لهيكلة أكبر مصرفين (الرافدين والرشيد) بالاعتماد على المشورة الدولية، وسياسات البنك المركزي الرامية لتعزيز الرقابة على عملها والمفاوضات الجارية لرفع العقوبات وغيرها، إلا أن الجهاز المصرفي ما زال يعاني من تحديات واضحة.

إن التنمية الاقتصادية المنشودة في العراق بحاجة لقطاع مصرفي يعمل (بالقواعد الاقتصادية) شرطاً ضرورياً وليس كافياً لتحقيق التحول نحو بدايات التنمية، وبدونه تبقى مشكلات (السيولة النقدية) عالقة كون الكتلة النقدية في الاقتصاد بشقها الأكبر خارج 

الجهاز المصرفي.