اللحوم المستوردة تغزو موائد العراقيين

ريبورتاج 2025/02/23
...

   بغداد: سرور العلي 


في ظل تزايد الطلب على اللحوم وتراجع الإنتاج المحلي، أصبحت اللحوم المستوردة تحتل مساحة كبيرة في برادات الأسواق الشعبية. لكن هذه الظاهرة لا تخلو من تساؤلات تثير القلق: لماذا تتباين أسعار اللحوم المستوردة بشكل لافت؟ وما هي حقيقة جودتها؟ ومن يستفيد من هذه الفجوة السعرية؟.

بين لحوم تعرض بأسعار مرتفعة في الأسواق الكبرى، وأخرى تباع بأسعار زهيدة في الأسواق الشعبية، يجد المواطن نفسه في حيرة من أمره: أي اللحوم يمكن أن تكون آمنة؟ وأيها قد تخفي مخاطر صحية؟

في رحلة بين الأسواق والمستوردين والجهات الرقابية، نحاول الإجابة عن هذه التساؤلات، ونكشف الستار عن حقيقة اللحوم المستوردة التي تملأ موائد العراقيين.

في أحد الأسواق الشعبية المزدحمة، يقف صاحب محل جزارة ليشرح لنا الواقع المرير الذي يعيشه المواطن العراقي: "بسبب ارتفاع أسعار اللحوم العراقية لذا يلجأ الكثيرون إلى شراء لحوم مجهولة المصدر". ويضيف: "أن سعر الكيلوغرام من لحم العجل العراقي يصل إلى 20 ألف دينار، ولحم الغنم قد يتجاوز هذا الرقم، بينما اللحوم المستوردة تتراوح أسعارها بين 8 إلى 10 آلاف دينار فقط".

هذا الفارق السعري الكبير يدفع الكثير من الأسر ذات الدخل المحدود إلى اللجوء للحوم المستوردة، خاصة تلك القادمة من دول مثل أستراليا، كما يوضح أبو أحمد، صاحب أحد الأسواق، مؤكداً بقوله "اللحوم الأسترالية أكثر طلبًا بسبب انخفاض أسعارها وجودتها".

أم حسين، إحدى المواطنات، تقول: "أفضل شراء اللحوم المستوردة؛ لأن أسعارها مناسبة، خاصة مع تدني مستوى معيشة أسرتي". لكن في الجهة المقابلة، تقف أم رسول، التي ترفض شراء لحوم مجهولة المصدر، قائلة: "أخاف على أسرتي من الأمراض والفيروسات التي قد تحملها هذه اللحوم".

في ظل هذه المعضلة، يطالب المواطنون الجهات المختصة بتشديد الرقابة على الأسواق ومتابعة التجار، خاصة أن بعضهم يبيع اللحوم المستوردة على أنها عراقية. المواطن غسان حسن يرى أن "التوعية بمخاطر هذه اللحوم ضرورية، من خلال حملات توعوية وإعلامية تلعب دورًا كبيرًا في الحد من هذه الظاهرة".

الدكتورة حنان ياسين محسن، المختصة في المناعة والتغذية العلاجية، حذرت من أن استهلاك هذه اللحوم قد يعرض المستهلكين وأسرهم لأمراض خطيرة.

وأوضحت الدكتورة محسن لـ"الصباح" أن "التركيب النسيجي للحوم يشبه إلى حد كبير عضلات الإنسان، ما يجعلها بيئة خصبة لنمو البكتيريا والطفيليات إذا كانت فاسدة أو مصابة". وأضافت: "تناول لحوم فاسدة يعرضنا لهجوم كبير من قبل هذه الكائنات الضارة، ما قد يؤدي إلى الإصابة بالتسمم الغذائي، والتهابات القولون، وسوء الهضم، وحتى السرطان".

كما أشارت إلى أن بعض هذه اللحوم قد تكون ملوثة بمواد كيميائية أو هرمونات محظورة، ما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة.

وشددت الدكتورة محسن على ضرورة التأكد من مصدر اللحوم قبل شرائها، قائلة: "لا تغتروا بالأسعار الرخيصة، فقد تكون صحتكم ثمناً لها". ودعت المواطنين إلى شراء اللحوم من مصادر موثوقة ومعروفة، وعدم المخاطرة بصحتهم من أجل توفير بضعة دنانير.

 في حديثه لـ"الصباح"، كشف الخبير الاقتصادي دريد العنزي عن الأسباب الكامنة وراء انتشار اللحوم المجهولة المصدر في الأسواق المحلية، مشيرًا إلى أن "عدم السيطرة على المنافذ الحدودية، إضافة إلى   المنافذ غير الرسمية، أدت إلى دخول كميات كبيرة من هذه اللحوم بأسعار رخيصة".

وتساءل العنزي باستغراب: "كيف تسمح حكومات البلدان المصدرة بذلك؟"، مؤكدًا أن تصدير لحوم مجهولة المصدر أو غير مطابقة للمواصفات الصحية يُعد مخالفة قانونية.

وأضاف: "من يسمح بدخولها إلى العراق يرتكب مخالفة أخرى، ولو كانت هناك دعاوى قانونية من قبل المستهلكين المتضررين، لما تكررت مثل هذه الحالات".

ونبه العنزي على أن استيراد الحيوانات الحية المريضة يشكل خطرًا أكبر من استيراد اللحوم المصابة، مستدلًا بنفوق أعداد كبيرة منها في السابق. وأكد أن هذه الممارسات تهدد ليس فقط صحة المواطنين، بل أيضًا الاقتصاد الوطني.

وشدد الخبير الاقتصادي على ضرورة تشكيل لجان تحقيقية تبدأ من الجمارك وتصل إلى التجار، بهدف كشف الفساد ومعاقبة المتورطين. كما طالب بتعويض المتضررين من هذه الممارسات، مؤكدًا أن ذلك سيكون رادعًا لمن يتلاعب بسلامة الغذاء وصحة المواطنين.

وما زاد من تفاقم المشكلة، أنباء انتشار الحمى القلاعية في البلاد، إذ أفادت تقارير بدخول باخرة أفريقية تحمل 2400 رأس من العجول المصابة بالمرض، وقد تم إدخالها بعد تزوير أوراقها التي تشير إلى أنها ذات منشأ يمني، وخالية من الأمراض، في الوقت نفسه أكدت وزارة الصحة أنها لم تسجل أي إصابة بالحمى القلاعية. 

وفي مؤتمر صحفي عقدته وزارة الزراعة للحديث عن آخر مستجدات مرض الحمى القلاعية، أعلن وزير الزراعة د.عباس جبر المالكي عن إحصائية الإصابات بالحمى القلاعية التي بلغت 3 آلاف رأس من الماشية، لافتاً إلى أن الحمى القلاعية موجودة منذ أكثر من 90 عاماً، إضافة إلى أن الأدوية واللقاحات متوفرة بشكل مجاني، مؤكداً أن انتقال الحمى القلاعية إلى الإنسان عبر اللحوم والألبان مجرد شائعة.

وفي شباط الماضي وجّه وزير الزراعة بفتح استيراد الأبقار والأغنام، لأغراض الذبح والتربية، وللسيطرة على أسعار اللحوم العراقية في الأسواق، على إثره قررت الأمانة العامة لمجلس الوزراء تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على الحيوانات المستوردة، لأغراض الذبح لتصبح 2 بالمئة فقط للمواشي المخصصة للذبح، و4 بالمئة للمواشي المستوردة لأغراض التربية بدلاً من 10 بالمئة.

من جانبه بين وليد محمد رزوقي، المدير العام للثروة الحيوانية في وزارة الزراعة في حديثه لـ"الصباح"، أنه "تم تشكيل لجنة عمليات، لإدارة هذه الأزمة برئاسة الوكيل الفني، وعضوية المختصين للمتابعة اليومية لهذا الوباء، وتم أخذ إجراءات عدة، ومنها توفير الأدوية واللقاحات والمعقمات، إضافة إلى حجر المناطق المصابة، للسيطرة على انتشار المرض في القطعان السليمة".

بدوره، أكد المدير العام لدائرة البيطرة في وزارة الزراعة الدكتور ثامر حبيب حمزة الخفاجي أن "هناك لجان رقابة وتفتيش تابعة لدائرة البيطرة، تتولى الإشراف الصحي على المجازر في الكرخ والرصافة، وشعب المجازر في المحافظات، لمتابعة تلك الحالات.

وأضاف في ما يتعلق بالتعامل مع هذه اللحوم يقوم الطبيب البيطري المرافق للجنة بفحصها وتحديد صلاحيتها، ويتم التعامل مع المخالف قضائياً.

ونوه الخفاجي بأن "دائرة البيطرة ومن خلال لجانها مستمرة بعملها الميداني، للكشف عن جودة اللحوم وصلاحيتها، والتأكيد على ضرورة الالتزام بالضوابط الصحية، لضمان سلامة المواطن".

وتنص المادة الأولى من القانون رقم 146 لسنة 1998 على: "يعد بيع لحوم الكلاب أو الحمير أو غيرها من اللحوم غير المعدة أو غير الصالحة للاستهلاك البشري، على أنها لحوم خراف أو أبقار أو غيرها من اللحوم المعدة والصالحة للاستهلاك البشري، جريمة من الجرائم المتعلقة بالصحة ومبادئ الدستور العامة، ويعاقب المخالفون وفقاً لمادته الثانية بـالسجن لمدة لا تقل عن سبع سنوات، ولا تزيد على عشر سنوات".

في تصريح خاص لـ"الصباح"، أوضح النائب كريم السراي، عضو لجنة الصحة النيابية، أن "أقسام الصحة العامة تواصل جهودها لمكافحة ظاهرة اللحوم المجهولة المصدر". ومع ذلك، أشار إلى أن المشكلة لا تقتصر على اللحوم المستوردة فحسب، بل تمتد إلى المواشي الحية المستوردة، التي تشكل خطرًا أكبر على الصحة العامة.

وفي ما يتعلق بمرض الحمى القلاعية، أكد السراي أن "الإصابات الموجودة في المواشي ليست بالمستوى الذي أشاعه الإعلام". وأضاف أن "معظم الألبان والأجبان المتوفرة في الأسواق مصنوعة من الحليب المجفف، وفي حالات نادرة فقط يعتمد إنتاجها على حليب الأبقار والمواشي الأخرى".

كما أكد النائب أن الجهات المعنية اتخذت إجراءات مشددة لمنع تنقل المواشي بين المحافظات، بهدف الحد من انتشار الأمراض والحفاظ على سلامة الغذاء.

من جهته، قال مدير دائرة الصحة العامة، رياض عبد الأمير: أن الحمى القلاعية مرض يصيب الحيوانات، إذ يتمثل بظهور حمى وفقدان الشهية، يعقبها ظهور بثور في اللسان والأنف وبين الأظلاف، وقد يؤدي في بعض الحالات إلى نفوق الحيوانات"، مؤكداً أن هذا المرض نادر جداً لدى الإنسان، إذ لم تُسجَّل سوى حالة أو حالتين في بريطانيا سابقاً، وعادة ما تكون الإصابة البشرية خفيفة".

وأشار إلى أن وزارة الصحة تهيب بمربي المواشي والعاملين في حقول تربية الحيوانات بضرورة تجنب التماس المباشر مع الحيوانات، سواء كانت مريضة أو غير مريضة، إلا بعد اتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة، بما في ذلك ارتداء المعدات الوقائية الكافية".

ونوه بأن "الحمى القلاعية لا تشكل خطراً على الإنسان، ولا خوف من تناول اللحوم المطهية أو منتجات الألبان المعالجة حرارياً".

وأشاد عبد الأمير "بجهود الدوائر البيطرية التابعة لوزارة الزراعة في تطويق واحتواء المرض ومنع انتقاله بين الحيوانات والمواشي"، داعياً إلى "مواصلة هذه الجهود وتكثيف الحملات والإجراءات للقضاء على المرض".