الشاعر الكبير شوقي عبد الأمير: كان العالم قرية الآن جهاز موبايل في الجيب

منصة 2025/02/24
...

 بغداد: محمد إسماعيل


جرَّد النظام السابق، الشاعر الكبير شوقي عبد الأمير من جنسيته العراقيَّة؛ فاحتضنته اليونسكو والأمم المتحدة ومعهد العالم العربي في فرنسا وتشكيلات ثقافيَّة ودبلوماسيَّة تغطي محيط الكرة الأرضيَّة؛ أحالته الى شخصيَّة كونيَّة، من دون أن يفقد وجوده العراقي الأصيل، حاملاً الفرات من مسقط رأسه الناصريَّة، قارورة عطر تشذي بأريجها قصائد استوقفت مثقفي العالم، وتداولناها مخطوطة باليد خلسة عن أقلام "كتاب التقارير" في إعداديَّة الثورة الوقعة بـ"جعب" الجوادر، إبان الثمانينيات، وحتى صباح الأربعاء 9 نيسان 2003 وكذلك شكل شعراء الخارج متنفساً لقصائد نخشى أنْ نقولها تحت ظل العهد السابق، ونطمح للكتابة على شاكلتها عندما نضج العمر والوعي بنا.. نحن حفاة الأكواخ الفقيرة.

يزور الشاعر الكبير شوقي عبد الأمير، وطنه العراق الذي لم تتمكن السلطة السابقة من فصم عراه؛ زيارة وفاء لخدمة الثقافة العراقيَّة انطلاقاً من منصبه العالمي مديراً عامَّاً لمعهد العالم العربي في فرنسا، التابع لمنظمة اليونسكو في الأمم المتحدة.

وأبدى عبد الأمير سعادة بلقائه جريدته "الصباح" مرة أخرى، بعد أنْ تشرفت برئاسة تحريرها مدة من الزمن: تحياتي لزملائي السابقين وقراء "الصباح" مؤكداً: "معهد العالم العربي منظمة إعلاميَّة ثقافيَّة عربيَّة.. فرنسيَّة كبرى، تجمع الدول العربيَّة الى جانب فرنسا، تضمُّ مئتين وخمسين موظفاً، ومتدربين بأعدادٍ كبيرة، تشغل موقعاً في قلب باريس، على نهر السين مقابل نوتردام بعشرة طوابق، تعمل على نشر الثقافة والإبداع العربي منذ أربعين سنة، في باريس وعبر باريس الى العالم، ناجحة في التحول الى منارة عربيَّة إبداعيَّة في العالم".

وقال: يدير المعهد شخصان، الأول يمثل فرنسا بدرجة وزير وبمنصب مدير، والثاني رئيس ومدير عام يمثل العرب، بدرجة وكيل وزير، شغلت منصب المدير العام دولٌ عربيَّة سابقاً؛ المغرب والجزائر ولبنان ومصر والسعوديَّة والآن يشغل منصب المدير العام العراق، ممثلاً بشخصي"، مضيفاً: "المعهد على مدى أربعين سنة من العمل، في الأنشطة الثقافيَّة الكبيرة.. معارض تشكيليَّة وندوات وأسابيع سينما ومعارض كتب ومتحف ومكتبة، كلها تشتغل دورياً بكثافة مقدماً الى العالم عبر فرنسا خلال أربعين سنة، ما لم تقدمه أيَّة دولة أو مؤسسة وحتى اليونسكو؛ لأنَّ معهد العالم العربي ركز على النشاط الثقافي والإعلامي العربي".

ونوه: "في ما يخص العراق، بمجرد مجيئي الى منصب المدير العام قدمت للعراق نشاطين مهمين.. فيلم "كنوز العراق" من ساعة ونصف الساعة، بالاتفاق مع قناة آرت أيه الفرنسيَّة، عرض على قاعة المعهد بحضور ألف شخص، وأصبح حدثاً عظيماً لدرجة أنه تمَّ الإتفاق مع مكتب رئيس الوزراء على دبلجة الفيلم وتوزيعه هنا في العراق بين طلبة المدارس والجامعات؛ لأنَّه يحوي معلوماتٍ مهمَّة عن تاريخ العراق واكتشاف كنوزه الأخيرة، وفي باريس ستعرضه منظمة اليونسكو على المجموعة الدوليَّة، ونشاطاً ثانياً "بغداد مدينة السلام" فكرة جديدة إعلاميَّة، أنْ تنشئ معارض على شكل لعبٍ الكترونيَّة مستوحاة من ألف ليلة وليلة، فيها أبطال ألف ليلة وليلة وتدور أحداثها في بغداد العباسيَّة افتراضياً، واللعبة الآن موجودة في الأسواق، واقتاناها أطفال العالم، ويمكن للعراقيين الحصول عليها، كما يجري التفاوض بشأنها بين متحف المعهد ومتحف بغداد لنقلها إليه، وهناك مشاريع مستمرة".


حلقة مفقودة

رجَّحَ الشاعر الكبير شوقي عبد الأمير: "المعهد ليس رؤية فرنسيَّة ولا عربيَّة، هو رؤية علميَّة، في تقديم الفكر والإبداع العربي في فرنسا، وهي قضيَّة يحتاج لها خبراء، وفنيون ونوعٌ تأملي من الخطاب.. لدينا شعر وسينما ومسرح وتراث وموسيقى عربيَّة، كيف تنقل وتقدم الى المتلقي الفرنسي، هنا يشتغل الخبراء تقنياً وآلياً وفق خطاب يتقنه المختصون، هذا هو اختصاص المعهد، يعطي موقعاً واسلوب مخاطبة المتلقي الفرنسي، وهذا هو المهم؛ لأنَّ كثيراً من العرب وبنوايا طيبة ومحتوى مهم، لكنهم لا يعرفون كيف ينقلون ما لديهم الى المتلقي، هذه الحلقة المفقودة هي التي يقدمها المعهد"، معلناً: "تطلقون عليَّ شخصيَّة كونيَّة، لكنْ أعرف أنني عراقيٌّ أساساً، لكني عراقي عاش معظم عمره خارج الوطن، غادرت العراق وعمري عشرون سنة، الآن عمري خمس وسبعون، يعني نصف قرن خارج العراق.. أنا أبقى عراقياً، لا أكتب شعراً إلا باللغة العربيَّة.. خطابي الى العالم الذي تطور بتسارعٍ لا قياسي.. علاقتي مع العالم توسعت، أدواتها ولغاتها وثقافاتها تعددت؛ فصرت قادراً على تقديم نفسي كعراقي بقوة؛ لأنني فهمت أداة الآخر وكيف ينظر لي، الآن أستطيع اختراق الكثير من الأسوار الموجودة بيني والآخر بحكم معرفتي العميقة باللغة وتراكم خبرة التجربة وعملي في مؤسسات ومراكز وإدارة مؤسسات، سبع عشرة سنة مستشار منظمة اليونسكو للمنطقة العربيَّة، كلها تجارب مكنتني من المزج بين حضارتنا وثقافتنا وحضورنا العالمي، جاء كثيرون ممتلئون بالحضارة والثقافة العربيَّة، لكنْ عندما تضعه في الخارج لن يستطيع إدارة العمليَّة، أنا وجدت المعادلة،استخلصتها من التجربة والعمل، تحت موشور مختبري، تحليلي بوعي مرن، لدرجة أنَّ وزيرة الثقافة الفرنسيَّة عندما اختارتني العام الماضي شخصيَّة العالم الثقافيَّة في فرنسا، قالت: شوقي عبد الأمير جسرٌ بين الثقافتين.. العربيَّة والفرنسيَّة، هذا الجسر حقيقي في داخلي، لم أختره، نشأ من تلقاء وجوده، ابتنى خطوة خطوة، أصبح اليوم عندما أكون في العراق خطوتي الى العالم وفرنسا، وعندما أكون في فرنسا خطوتي من العالم نحو العراق، ومن هنا اليوم حلولي في هذا المنصب أو بالأحرى تسنمي هذا المنصب هو تكريسٌ لإنجاز أربعين عاماً من الاشتغال في هذا الإطار؛ لذا صارت ثمة قدرة على أنْ أحققَ لبلدي والثقافة العربيَّة خدماتٍ واسعة؛ لأنني أمثل العرب في المعهد.. كل العرب يطالبونني بدورهم وسأكون حاضراً لتلبيتها، أنا الآن أكثر قدرة على التلبية ومواجهة هذا التحدي، هذا من الناحية المهنيَّة.. الدبلوماسيَّة الثقافيَّة، لكنْ أنا لست فقط سفيراً للدبلوماسيَّة الثقافيَّة، أنا شاعرٌ قبل كل شيء، عندي خطابٌ شعري، الفرنسيون يقولون: شوقي عبد الأمير بقبعتين.. الشاعر والدبلوماسي، وتلك حقيقة، فعندما أكون أمام الصفحة البيضاء وأمام قصيدتي، وعندي ديوانان في بيروت وصدر لي كتابٌ العام الماضي، في القاهرة عن دار نشر "أروقة" لم أتوقف عن الكتابة الشعريَّة بكثافة، وبهذا يتواصل منظوري الشعري خطاباً عالمياً، خطاباً خاصَّاً بي أترجمه عبر النصوص والدواوين، وهو يشكل منظوراً آخر من وجهة نظر إبداعيَّة، العالم الذي تضاءل متكاثفاً في شاشة تلفون، كان يقال "العالم قرية صغيرة" الآن جهاز موبايل أصغر من كف إنسان، في الجيب، هذه الحالة يجب أنْ تُتَرجمَ إبداعياً، كيف تضع العالم في جيب شعرك، هناك معادلة عسيرة يجب أنْ يتمكن الشاعر منها، هي الوقوف على هرم ارتفاعه خمسة آلاف عام، لأنَّ كلكامش قبل آلاف السنين "رأى كل شيء" فأين تضع نفسك إزاء الماضي، وصولاً الى ما بلغه العالم من اختزال نفسه في شاشة صغيرة! هذا هو التحدي المطروح أمام كل شاعر".


مدرسة شتات

ذكر مدير معهد العالم العربي: "لا أؤمن بكليشة (شعراء معارضة) لكنَّ سواي يتبناها، أنا لا تعنيني، إنما يعنيني نتاجي الشعري، إذا ثمة مدرسة فلنرها، لا أنتمي لأيَّة مدرسة.. هذا أكيد، ولست جزءاً من شعراء معارضة، لكنني شاعرٌ معارضٌ لصدام حسين، لم أكن جزءاً من مؤسسة أو تجمع.. كلا، لم تتبلور المعارضة في تشكيل مؤطر.. كلٌ اشتغل لحاله، أكتب بحريتي، لا أؤمن بأي تيار، وأفهم التيارات الأدبيَّة على أنها أحداثٌ تاريخيَّة، ليست إبداعيَّة، التيار الأدبي هو حالة تحدث في حالة تاريخيَّة معينة، يجتمع شعراء، لكن كل واحد منهم على حدة، هو عالم آخر، مثلاً: السرياليَّة تيار، لكنْ لا علاقة لبريتون بأراغون أو إيلوار بتزارا، لكن يجلسون في مقهى ويتفقون على أشياء، إنها أمورٌ تاريخيَّة، لكنْ أؤمن أنَّ الإبداع فردي، والجانب المؤسساتي شغل مؤرخين ليس شغل مبدعين، وتوقفت بعد الخمسينيات، بسبب الحربين العالميتين، التيارات الأولى بعد الحرب العالميَّة الأولى، طلعت المستقبليَّة وبدايات السرياليَّة وبعد الحرب العالميَّة الثانيَّة استمرت السرياليَّة بقوة، دائماً الحروب تبعثر الكيانات، وأول من يواجهها المبدع؛ لأنَّ راداره أكثر حساسيَّة وقدرة على التقاط الأحداث والاستجابة، فيحدث نوعٌ من التفاف بين مبدعين لمواجهة أخطار بعثرة الكيان الإنساني؛ فيحتجون بارتدادات كما حدث لدى الدادائيين الذين قلبوا موازين القيم الأدبيَّة الكلاسيكيَّة، يعدون الحرب وريث التقاليد الكلاسيكيَّة التي ظهرت من المجتمعات الكلاسيكيَّة، إذن هذه الحرب ابنة هذه الكلاسيكيات؛ إذن يجب تدمير الكلاسيكيات ونسفها، لكنْ كل ذلك يستقرُّ مع الوقت ولا يبقى إلا الإبداع، وليس في الإبداع عنصر بقاء إلا الجمال.. كل القيم الأخرى الأخلاقيَّة والإنسانيَّة والوطنيَّة والقوميَّة مهمَّة وعظيمة لكنْ لا علاقة لها بالإبداع".


تماهٍ مكاني

وأشار شاعر "ديوان الاحتمالات": "تمكني من اللغة الفرنسيَّة ومحاضراتي بها، لم يغرني بالكتابة بها؛ مصرٌّ على الكتابة باللغة العربيَّة، وأدير مؤسسة فرنسيَّة كبرى، ما عندي مشكلة لكنْ عندما أعود الى ورقتي اللغة العربيَّة فقط هي التي تجبُّ سواها، الذاكرة العراقيَّة يطلع منها كل شيء، العالم الخارجي غذاءٌ لكياني العراقي، لا يغير كياني إنما يغذيه، اللغة الفرنسيَّة في الحياة اليوميَّة لا بُدَّ من التحدث بها، لكن أحلم بالفرنسيَّة والعربيَّة، عندي تجربة بالفرنسة لم أنشرها؛ أريد أدرس جدواها، مختلفة كلياً عن شعري".

مبيناً: "نيتشه في (هكذا تكلم زرادشت)، يقول: لست شيئاً آخر سوى شاعر، وكلمة بيكيت: لا أصلح إلا لكتابة المسرحيات، أنا بين هؤلاء الاثنين لا أصلح إلا للشعر والإدارة والدبلوماسيَّة والاستشاريَّة والسفارة الثقافيَّة، كلها وظائف لا علاقة لها بالنواة الشعريَّة، تحكمني بالجذر".

وفي نظرة مستقبليَّة لتوزعه بين ميادين متنوعة، أوضح: "لا أسمي توزعي تشظياً؛ لأنَّ التشظي يسيطر على المرء، وأنا مسيطرٌ على تنوع تخصصاتي المتوسعة، مهيمناً على اتساع أدائي شعرياً وعملياً، لهذا تعلمت السيطرة عليه، لم يكن سهلاً، إنه تصوفٌ يعلم الإنسان كيف يكون مركز العالم، فالصوفي مركز العالم بين المؤمنين؛ لذا يرتبط مباشرة مع الرب".


بماذا جئت؟

وواصل شوقي عبد الأمير: "بمناسبة زيارة جاك لانغ.. الوزير السابق للثقافة الفرنسيَّة، ولقائه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، والاتفاق بشأن تطوير الحضور الثقافي الإبداعي العراقي في معهد العالم العربي في فرنسا والعالم، سيتم أولاً: تأسيس لجنة مشتركة لاقتراح المشاريع ومراقبة تنفيذها، ستتكون من ثلاث شخصيات عراقيَّة.. ممثل رئيس الوزراء الشاعر د. عارف الساعدي وممثل وزارة الثقافة د. علاء أبو الحسن وممثل السفارة العراقيَّة في باريس يختاره السفير، وثلاث شخصيات فرنسيَّة.. مستشار المعهد ورؤساء الأقسام، برئاستي وإشرافي، أنا مدير عام المعهد، فهناك مشاريع مقترحة، وستعلن في حدث إعلامي مهم، وتبدأ عملها باجتماعين سنوياً في باريس وبغداد، كل ما يتوفر من مقترحات تقر وتنفذ".

على الصعيد الشخصي، لفت الشاعر شوقي عبد الأمير: "عندي ديوان "اللهب الغارق" صدر مؤخراً عن دار أروقة من أربعمئة صفحة، قصائد حب، جمعت فيه نصوصي في الحب، وهي تجربة، مكرسة شعرياً، والآن عندي كتابان جديدان في بيروت "أحجار تفضح الصمت" بالتعاون مع الفنان رسمي الخفاجي، و"العثور على وجهي في دفاتر حسن المسعودي" تجربة تجمع قصائدي بتخطيطات الفنان حسن المسعودي، سأوقعهما خلال أيار المقبل في معرض بيروت، وفرنسياً، صدر لي كتابان مترجمان "أشهد أني رأيت" قصائد أرافق بها صوراً التقطها مصور فرنسي من أصل سوري، و"من نسج البحر لي" مع مصور آخر في مسقط، نص عن قصائدي في مسقط برفقة صور عن مسقط، وصدرت مختارات بترجمة الشاعر محمود وهبة، اختار منتخبات من أربعمئة صفحة، أسميتها "خيانة الألم" صدرت عن دار "النهضة الثقافيَّة" في بيروت العام الماضي، وعندي الآن إنطولوجيا اختارتها المستشرقة الفرنسيَّة بينديك دوليي، ستصدر عن دار غاليمار، وهي بعنوان "دمية هيرودوت" اعتربت فيها التاريخ هو الدمية التي ابتكرها هيرودوت، والآن يلعب بها من شاء كما يريد.