رواية حسن روحاني عن الموقف الروسي من سوريا

منصة 2025/02/26
...

    جواد علي كسار


أطلعني في بغداد مختص دقيق المتابعة للشأن الإيراني، على مادّة واسعة ترصد أصداء سقوط نظام بشار الأسد في طهران. أصابني الذهول من امتداد المادّة إلى عشرة مجلدات ضخام، استوعبت ما صدر عن طهران من ردود فعل رسمية سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية وستراتيجية، مضافاً إليها مئات التحليلات لخبراء ومختصين سياسيين وأكاديميين، من بين هذه المادّة أحد عشر خطاباً للمرشد تتصل بالحدث ومقدّماته ونتائجه، وقد زاد في أهميتها أنها جميعاً موثقة بالمصدر والتأريخ، وباسم صاحب النص أو التحليل.

لاحظتُ على مدار أسابيع أمضيتها في مراجعة هذه المواد، أنها تفوق من حيث الكمّ والمعلومات والرؤى التحليلية والقيمة النقدية، ما كان قد صدر عن إيران في مناسبة إقليمية سابقة هي سقوط نظام صدام حسين في نيسان عام 2003م، ما يعكس استشعاراً أخطر للعقل الستراتيجي الإيراني والسياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، بين الواقعتين، تكشف نتائجه الكمية والنوعية عن أن حجم المخاطر التي أصابت إيران بعد سقوط الأسد، فاق الفرص التي واتتها بعد سقوط صدام؛ هذا إن لم تكن هذه المخاطر بإضافة متغيرَي غزة ولبنان إليها، قد التهمت أغلب ما كانت قد راكمته السياسة الإيرانية من مكاسب في الإقليم إبّان العقدين المنصرمين.

تضمّنت صفحات هذه الموسوعة الرصدية المتميّزة وقد ناهزت الأربعة آلاف صفحة؛ معلومات ممتازة عن الملف السوري والسياسة الخارجية الإيرانية، بالإضافة إلى أفكار وآراء تنتمي إلى جميع أصناف الطيف السياسي في الجمهورية الإسلامية. وبانتظار عمل علمي يقوم على فرز هذه المادّة وتصنيفها، ثمّ ممارسة قراءة تحليلية لمحتواها، رأيتُ أن أمرّ في هذا المقال على مادّة واحدة من مئات المواد، توثّق لموقف الرئيس حسن روحاني (في الرئاسة: 2013 - 2021م) من نظام الأسد في دمشق بداية الأزمة، وتكشف عن موقف موسكو وخياراتها وبالتحديد الرئيس بوتين، من الرئيس السابق بشار الأسد.


لقاء في بيشيك

بتأريخ 13 أيلول 2013م حلّ الرئيس حسن روحاني في عاصمة قرغيزستان بيشيك، لكي يشارك في قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي كانت قد تأسّست في 15 حزيران 2001م، على يد ستة قادة دول آسيوية هي (الصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان وروسيا)، والتحقت إيران بها بصفة عضو مراقب، ضمن اصطفافها مع محور الشرق الجديد بمركزية روسيا والصين، وانتهاجها لما بات يُعرف بستراتيجية الاتجاه شرقاً، في مسعى لموازنة علاقتها مع الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي، عبر الضغط عليه بورقة العلاقة مع روسيا والصين، وعموم دول محور الشرق.

كان اللقاء مع الرئيس الروسي بوتين هو واحد من أجندة روحاني، وقد تسنَّم تواً موقعه الجديد رئيساً للجمهورية، بل ربما كان اللقاء مع بوتين أهمّ بالنسبة إلى إيران من القمة نفسها، خاصةً بلحاظ بحث طهران عن دعم روسي لموقفها من الملف النووي والأزمة السورية، التي كان قد مضى على اندلاع شرارتها الأولى في آذار 2011م، أكثر من سنتين أصبح فيها مصير بشار الأسد ونظامه في مهبّ الريح.


بروتوكول القيصر

لم يكن هذا اللقاء أول العلاقة بين روحاني وبوتين بل سبق أن التقيا عدّة مرّات، خاصةً عندما كان كلّ واحدٍ منهما يشغل في بلده موقع أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي. لكن بصفته رئيساً كان هذا أول لقاء لروحاني مع بوتين. ومع ذلك فقد كان روحاني عارفاً بالقواعد الخاصة لتصرفات بوتين مع ضيوفه وكبار زائريه، ضمن ما بات يُعرف بـ"بروتوكول بوتين".

واحدة من قواعد هذا "البروتوكول" الخاص الذي يمارسه بوتين، هو إبطاؤه عمداً عن المواعيد المقرّرة للقاء ضيوفه أو تركهم ينتظرون. وبوتين هو من يتلاعب بمدّة الانتظار، وفقاً لحساباته الخاصة، وعناصر من قبيل شأن الضيف، وطبيعة علاقة بوتين معه، وخلفية هذه العلاقة، بالإضافة إلى مزاج بوتين نفسه. لقد تأخّر اللقاء عن موعده الرسمي المقرّر فعلاً، بأربعين دقيقة، لكن روحاني الذي كان مدركاً لهذا كله عارفاً بشخصية بوتين؛ لم تنطوِ عليه اللعبة، ومن ثمّ لم يقع ضحية هذا العبث، ولم يلبث في الانتظار المهين أربعين دقيقة، إلى أن يحضر القيصر بوتين، بل تدارك أمره مسبقاً بحيلة مماثلة.

نقرأ في النص: "تأخّر اللقاء أربعين دقيقة قبل أن يبدأ، إذ كان هذا هو مألوف عادة بوتين في ترك قادة العالم، ينتظرون. لكن روحاني كان عارفاً بعادةِ بوتين هذه، لذلك لم يذهب إلى مكان اللقاء (في الموعد المحدّد) لكي لا يبقى منتظراً بوتين، بل مكث في مكانه ومحل إقامته، وأوصى من يبلغه بوقت استعداد رئيس جمهورية روسيا وحركته، لكي يتحرّك ويدخلا قاعة الاجتماع في وقتٍ واحد"، وهذا ما حصل (مجلة: آكاهى نو، العدد 15، ص: 28).


من البديل؟

كان اللقاء بين الرئيسين يدخل في عداد اللقاءات المطوّلة، إذ دام ساعة وعشرين دقيقة، كانت الدقائق العشرون الأولى عامة بحضور جميع أعضاء الوفدين، والمسؤولين كلهم من الجانبين. أما الساعة المتبقية فقد اختصت بالرئيسين وحدهما، دون مشاركة أي واحد آخر سواهما، وقد تركّزت هذه الساعة على ملفين اثنين؛ الأول النووي الإيراني، والآخر ملف الأزمة السورية.

بشأن سوريا، نقرأ: "التفت روحاني إلى بوتين، سائلاً: ماذا تريد أن تفعل في سوريا؟ أجاب بوتين بنبرة يلابسها الشك والتردّد: وهل تعتقد أنه بالمقدور الإبقاء على الأسد؟ ردّ روحاني: نعم، يمكن ذلك، لكن مع الإصلاحات.

سأل بوتين مستوضحاً: كيف؟ أجاب روحاني: سوريا بلد متعدّد (مكوّن من عدّة طوائف وأعراق) والانقسام الحادّ هو بين العلويين والسنيين والأكراد في مقابل موج الحكومات الهادر. السنيون والحركات السلفية المتطرّفة وبالتحديد حركة الإخوان المسلمين السورية (خلافاً للإخوان المسلمين في مصر) يتسمون بالحدّة والتطرّف؛ ما دفع المكوّنات للوذ بالعلويين، وهم علمانيون. للعلويين الهيمنة على الجيش أيضاً، وهم يتعاملون مع المسيحيين بمرونة".

أضاف روحاني مسترسلاً في وصفه للواقع السوري: "حزب البعث السوري علماني أيضاً، لا شأن له بالحريات الاجتماعية للناس. وسط هذه الحالة يبقى الأسد وحده من له القدرة على حفظ وحدة سوريا، وما ثمة بديل له قطّ". استطرد روحاني: "لقد بذلنا جهوداً كبيرة للبحث عن بديل (للأسد) لكن لم تفشل جهودنا وحدنا، بل باءت بالفشل أيضاً جهود الفرنسيين والإنكليز؛ بل حتى أنتم الروس ليس لكم بديل عن الأسد".


طائرة بوتين في الانتظار

كلام روحاني هذا لم يُقنع بوتين، لذلك قال الرئيس الروسي لضيفه الإيراني: "من المستبعد أن يبقى الأسد! فما كان من روحاني إلا أن كرّر كلامه، بالقول: من هو البديل؟ لا يتقبل الجيش أوامر إلا من الأسد. سأل بوتين: ماذا إذا ضُرب الأسد؟ ردّ روحاني: تضطرم الأوضاع في سوريا، لذلك ينبغي حماية الأسد. قال بوتين: ليس لدي أي مشكلة في تأمين الأسلحة للأسد. ردّ روحاني: لا يكفي الدعم بالسلاح وحده، لابدّ من تقديم الدعم السياسي".

في نهاية اللقاء اتفق الرئيسان على اقتراح بوتين، بتعيين مندوب خاص لكلٍّ منهما في الملف السوري، يقومان ببحث مصير الأسد ومستقبله.

ضمن مبادرة بدت وكأنها تعويضاً عن الأربعين دقيقة التي تأخر فيها بوتين عن الموعد، أخذ الرئيس الروسي بيد ضيفه نهاية اللقاء، وسار معه مودعاً إلى حيث تنتظر سيارته. وعندما همّ روحاني بركوب السيارة، همس بوتين في إذن رئيس جمهورية إيران الإسلامية: "لدي سفينة وضعتها على أهبّة الاستعداد على ساحل البحر الأبيض المتوسط، معها طائرة أمرتُ أن تكون جاهزة للإقلاع في قواعدنا، لكي تقلّا بشار الأسد إلى موسكو في الأوضاع الاضطرارية".

هزّت كلمات بوتين هذه كيان روحاني وأصابته بالدهشة، لدلالتها على أن قلق بوتين من سقوط الأسد بلغ إلى الحدّ الذي حدّد له عملياً وسائل الفرار! لكن روحاني لم يفصح عن مشاعره هذه لبوتين، لأنه لم يكن متأكداً من نوايا بوتين، وفيما إذا كان قلقاً فعلاً على مصير الأسد، أم أن ما ذكره هو مشروع خطة لعبور الأسد وتجاوزه؟

عوضاً عن ذلك ردّ روحاني على همسة بوتين، وهو لم يزل بعد على باب سيارته، بقوله: "إنه تدبير جيد، لكن لا ينبغي للأسد نفسه أن يعرف ذلك؛ أي لا ينبغي له أن يعتقد بأن له مهرباً، بل ينبغي أن يعرف بأنه محكوم بالثبات والمقاومة".


ورقة أميركا

يبدو أن قريحة بوتين قد انفتحت على أبعاد أُخر حادّة من الأزمة السورية، وهو يودّع ضيفه على باب سيارته، وقد أطلق سؤالاً مرّر من خلاله إلى الرئيس الإيراني، معلومة تفيد بأن موسكو تتفاوض مع واشنطن على مصير النظام في سوريا، ما يعبّر عن قلق روسيا العميق إزاء فرض استمرار بشار الأسد في السلطة، إذ سأله قائلاً: "لماذا أميركا مستاءة إلى هذا القدر، من بشار الأسد؟ ردّ روحاني: لأن أميركا تريد أن يحكم دمشق فرد تابع لها، والأسد ليس فرداً موثوقاً به بالنسبة إلى واشنطن".

تذكر الوثيقة التي نشرت النص، بأن كلام الرئيس الروسي تحوّل إلى موضوع للبحث والمناقشة والتحليل على أعلى المستويات الستراتيجية في طهران، وكانت الحصيلة كما يلي: "أقوى تحليل والاحتمال الأرجح الذي تمخضت عنه المداولات؛ أن أميركا وروسيا قد توافقتا على مصير سوريا، واتفقتا فعلاً على ذهاب الأسد. لذلك قرّر المجتمعون التفكير بستراتيجية في الملف السوري، لا تجبر إيران على أن تكون ضحية الوقوع في الوحدة أو الغربة الستراتيجية. وقد كان الرئيس الإيراني يعتقد بضرورة حلّ الأزمة السورية في نطاق زمني محدّد لا يتجاوز السنتين، يخضع فيها البلد إلى السلام وبرنامج الإصلاحات معاً، لكن مع ذلك فقد دامت الأزمة عقداً من السنوات".


فرنسا وحزب الله

يؤكد التقرير بتفاصيل مطوّلة قصة لقاء للرئيس روحاني مع الرئيس الفرنسي وقتها فرانسوا هولاند، احتدم فيه الخلاف بين الرئيسين على مصير الأسد. فبعد شهر من لقاء بوتين أعلاه، حضر روحاني اجتماعات الجمعية العامة في أميركا بتأريخ 24 أيلول 2013م، وفي ما بعد ظهر يوم الثلاثاء حصل لقاء متوتر بين الرئيسين، بسبب سوريا ومستقبل الأسد.

يذكر التقرير عرضاً تفاهمياً من خمس نقاط طرحه روحاني بشأن سوريا، قرّب الموقف بين البلدين، وانتزع فتيل التوتر في اللقاء بينهما، خلص منه روحاني مخاطباً هولاند: "بيننا اختلاف واحد فقط، هو الأسد. وهذا الاختلاف ممكن معالجته بإجراء انتخابات بمشاركة بشار الأسد والمعارضين غير المسلحين".

أجل، هدّأت نقاط التوافق الخمس التي طرحها روحاني، حدّة هجوم هولاند ضدّ الموقف الإيراني، وقال معترضاً: "في انتخابات كهذه لا ينبغي أن يترشّح بشار الأسد. ردّ روحاني: يعني لا يحقّ للعلويين والبعثيين أن يكون لهم مرشح؟ أعتقد حتى الأكراد ليس لهم مرشح غير الأسد. هذا لا يتسق مع الديموقراطية".

عاد روحاني بعد ذلك ليراهن على بقاء الأسد، بقوله: "لنفرض أن الأسد لن يترشّح، فما هو اقتراحك؟ ومن هو المرشّح؟ ردّ الرئيس الفرنسي: ليس لدينا أي مرشّح ليحلّ بديلاً عن الأسد".

بعد هذا اللقاء بأكثر قليلاً من أسبوعين حلّ أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله ضيفاً على روحاني في طهران، وجرى بينهما لقاء مطول في يوم الجمعة 19 تشرين الأول 2013م، دام ساعتين (العاشرة والنصف صباحاً حتى الثانية عشرة والنصف ظهراً) .

مرّ الحوار على ملفات لبنانية عديدة، وموقف روحاني من مشاركة قوات الحزب في سوريا إلى جوار الأسد، وكان من بين ما جاء فيه، سؤال روحاني: "بنظرك من هو المقصّر في أزمة سوريا؟ ردّ نصر الله: السلفيون والإخوان المسلمون. تماماً كما حصل في مصر، وكان الإخوان المسلمون سبب إيجاد الأزمة. لكن على عكس مصر إذ غادر محمد مرسي؛ فإن الأسد باقٍ".

سؤال آخر وجهه روحاني لأمين حزب الله: "هل لبشار الأسد بديل؟ أجاب الأمين العام من فوره وبصراحة: كلا، ما ثمة بديل قطّ للأسد".


وهم البديل!

التقرير التوثيقي الذي بادرت إلى نشره مجلة "آكاهى نو" مطوّل، ونشرته عدّة صحف طهرانية، وأخذ أجزاء منه موقع الرئيس روحاني، ومن ثمّ هو بحاجة إلى ترجمة كاملة، والأهمّ من ذلك إلى قراءة متفحصة وتحليل ومراجعة. لكن في المساحة القليلة المتاحة لنا، أودّ أن أركز على قصة البديل، وأن مصائر الشعوب والبلدان معلقة على عاتق رجلٍ واحد.

هذا وهم دأبت على تصديره لنا عواصم الغرب المستفيدة من استمرار هؤلاء الحكام. ففي إبّان اشتعال وقائع الثورة ضدّ الشاه عام 78 وأوائل 1979م، كان الغرب يصدّع الرؤوس بأن زوال حكم الشاه يؤدّي إلى انهيار إيران وتقسيمها، وأنه لا بديل للشاه إلا الشاه، وذهب الشاه وبقيت إيران.

أعاد الغرب المعزوفة نفسها عن صدام بعد الانتفاضة الشعبانية (آذار 1991م) وكرّر المقولة ذاتها لقمع أي حركة شعبية وتطلعات للتغيير مع القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن وبشار الأسد في سوريا.

أفهم تماماً دوافع الغرب لترويج هذه المقولة، لكن لستُ أدري لماذا تنساق إلى ترسيخها أصوات في العالم العربي والإسلامي نفسه؟ أليس في هذا التضييق وشدّ الرهان على شخص واحد هو المنقذ وإلا فهو الدمار؛ أليس في ذلك تصفير للشعوب ونخبها، والحكم بعبثية أي مساعٍ للتغيير؟

أخيراً، هل وازنت هذه الأصوات وهي تملأ الفضاء السياسي، بأنه لا بديل للشاه ولصدام والقذافي والأسد وأشباههم؛ بين كلفة إزالتهم، والأثمان الفادحة التي دفعتها بلدانهم وشعوبها، نتيجة تشبُّثهم بالسلطة واستمرارهم في البقاء، وما طالها من خسائر عظمى لا تُقارن قطّ بكلف زوالهم؟!