حسن چلبي: الابتكار والتميَّز

ثقافة 2025/03/02
...

 مرتضى الجصاني 


قبل أيام، رحل عن عالمنا الخطاط التركي حسن جلبي (1937 ـ 2025)، الذي يعدّ من آخر تلاميذ الخطاط العثماني حامد ايتاش الامدي، حيث تكمن أهميّة جلبي بأنّه حلقة الوصل بين جيلين، جيل الخط العربي العثماني المتمثل بآخر عمالقته الخطاط حامد آيتاش الامدي وجيل الخط العربي في تركيا الحديثة المتمثلة بالخطاطين المعاصرين. وهذه الصلة لعبت دوراً هاماً على مستوى نقل الإرث الفني الثر الذي ورثه جلبي من أستاذه الامدي إلى جيل جديد لم يألف الحروف العربية في كتابته اليومية، حيث تحولت حروف الكتابة من العربية إلى اللاتينية في مستهل تأسيس تركيا الحديثة على يد مصطفى كمال اتاتورك. 

ولد حسن جلبي في قرية إنجي التابعة لقضاء أُولتو بولاية أرضروم شرقي الأناضول، عام 1937، نشأ في بيئة قروية حيث حفظ القرآن على يد خاله واستغرق ذلك ثلاثة أعوام ونصف، وفي عام 1956 شد رحاله إلى استانبول حيث عمل كمؤذن في مسجد "اسكال" بعد اجتيازه لاختبار رئاسة الشؤون الدينية التركية، ثم اختبار آخر ليكون إماما للمسجد، لكنه التحق بالخدمة العسكرية، وخلال هذه السنوات هو أتقن اللغة العربية والقرآن الكريم، حيث عمل عام 1959 إماما في مسجد دركاه محمد نصوحي أفندي، وهناك أعجب بالخطوط العربية التي تنمق المسجد وتزيد من فخامته. 

ومن خلال المساجد برز شغف حسن جلبي بفن الخطاطة الإسلامية، حيث تمنحه مساحة للتأمل في جماليات الفن الإسلامي، فعمل جلبي في خط اللافتات بالحروف اللاتينية، لكن حبه للخط العربي دفعه لتعلم أصوله وأساسياته على كراسات الخطاطين الأئمة التي تحوي الخطوط الرئيسة، كالثلث والنسخ والنستعليق والديواني والرقعة والديواني الجلي. 

في عام 1963 ذهب إلى استانبول وقصد آخر الخطاطين العثمانيين حامد آيتاش الامدي ليتعلم على يديه، لكن الامدي اعتذر لكثرة مشاغله ودله على تلميذه المبدع مصطفى حليم، لكن يشاء القدر أن يرحل الأخير في حادث سير مؤسف بعد فترة قليلة من تعرف جلبي عليه، فيعود إلى الامدي ليوافق الأخير على تخصيص درس له من كل أسبوع، ليبدأ رحلته مع الامدي في عام 1964، حتى رحيله الابدي. حيث منحه الإجازة الخطية في عام 1971، ومن ثم حصل على إجازة في خط النستعليق من الخطاط كمال باتناي عام 1980، كذلك تعرف على الخطاط والخطيب وصاحب الفنون نجم الدين أوقاي. ومن ثم منح الخطاط حسن جلبي إجازته لمئات من الخطاطين في تركيا وخارجها حيث كان بمثابة عمدة للخط العربي ووريثه الشرعي. إن المتأمل لسيرة الخطاط حسن جلبي سيلاحظ الكثير من العلامات الفارقة التي كونت هذا الرجل ومنحته أهمية على المستوى الشخصي والمستوى الفني أيضاً، حيث يتفق كل من تعرف عليه على إنه لا يخلو من مسحة صوفية زاهدة في حياته، وكذلك في خلقه وحسن تربيته ومعاملته لتلاميذه على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، فكان بحق إماما وشيخا للخط وتعليمه. 

أما من الناحية الفنية، فقد حافظ جلبي على مسلك أساتذته حليم والامدي في إجادة الحرف وفي طريقة تدريسه مما أهله لمنح مئات التلاميذ إجازته الخطية وفقا لأصولها ولا نبالغ إذ قلنا أنه لم ينقطع عن التدريس والتصويب حتى رحيله. 

لقد كان جلبي يملك لمسة خاصة تختلف عن أساتذته في صناعة اللوحة وتراكيبها وهو ما يمكن أن نطلق عليه الإبداع على وفق المنهج الجمالي للخط العربي، حيث يلتزم بقوانين وقواعد الخط كما يجب أن تكون وبنفس الوقت يخرج بتراكيب خطية مختلفة، وأحيانا اشتقاقات واتصالات للحروف غير مألوفة وجديدة بصيغة إبداعية. ونجد ذلك في أكثر من عمل له, مما جعلها تحمل لمسته الخاصة، حيث الابتكار والتميز في لوحات الطغراء التي أبدع في تكويناتها ورصفها وخلق كتل كتابية بشكل رشيق وملفت، كما نجد انفلاتات فنية جميلة في أكثر من طغراء، سواء في الكتلة الكتابية أو في التفاف الطغراء وحتى في مدوداتها، وهذا أيضاً يمكن ملاحظته في أعماله في الثلث الجلي وبالخصوص في استخدام المتشابه من الحروف وخلق إيقاع لطيف ورشيق ومريح للعين أيضاً. وهكذا في استخدامه لبعض اتصالات الحروف غير المستخدمة أو المألوفة أحياناً، فهو بذلك خلق منهجا وأسلوبا مميزا في هذا الفن. ما أود قوله إن الخطاط حسن جلبي هو أحد العلامات المهمة في سماء فن الخط العربي وتجويده وإتقانه، ورغم أنه ترك مئات الأعمال والآثار الفنية في المساجد والمعارض الفنية والمتحفية، وكذلك وجوده في لجان التحكيم الخاصة بالمسابقات الخطية، لكن رحيله يشكل خسارة كبيرة للفن بصورة عامة وللخط والفنون الإسلامية بشكل 

خاص.