تغيير الشرق الأوسط

آراء 2025/03/03
...

 ابراهيم العبادي

أتيحت لمجموعة من الباحثين العراقيين اللقاء بباحثين ايرانيين زاروا بغداد في الاسبوعين الأخيرين من شباط المنصرم، ازعم أن هذه المرة الاولى التي تلتئم فيها لقاءات عراقية - إيرانية يتحدث فيها العراقيون بجرعة صراحة عالية، ربما لأن هذه اللقاءات غير رسمية وأكاديمية الطابع، بحثية -استطلاعية المنهج! وإلا فإن لقاءات الرسميين تتأطر بطابعها الدبلوماسي وبحساباتها البروتوكولية والسياسية.

يستشف من الحوارات التي جرت في بغداد، ومن المقالات التي تعج بها صحافة ايران ومواقعها الالكترونية، إن إيران تجري بالفعل مراجعة لاستراتيجيتها الأمنية والدفاعية وسياستها الخارجية، لكنها لم تقرر بعد شكل الاستراتيجية التي ستكون موضع تنفيذ، فهناك ممانعة قوية لتغييرات دراماتيكية توحي للأعداء والخصوم بأن ثمة تراجعا وانكماشا بما يغري بالمزيد من التوظيف والضغط على إيران. المراجعة - كتبت عنها ثلاث مقالات - ليست ترفا وخيارا مفتوحا، يمكن اجراؤها أو تأجيلها، المراجعة تعني ان استراتيجية ما بسياساتها وأهدافها وادواتها لم تعد صالحة أو قادرة على الايفاء بمتطلبات الامن القومي، وان معطيات البيئة الاستراتيجية تغيرت ما يستدعي استجابة ضرورية للتكيف مع المتغيرات، وبما يحمي الأمن القومي.

ايران تواجه تحديات أمنية واقتصادية وسياسية خطيرة، واستراتيجيتها الامنية والدفاعية في طريقها إلى التغيير بناء على نظرية تحليل المخاطر والنظرية الواقعية، فالمخاطر جسيمة والخيارات الدفاعية تتقلص واحتمالات تعرض البلاد إلى هجوم أو حرب صارت اقرب إلى الواقع، في هذه المرحلة اكثر منها في اي وقت مضى، يترافق ذلك مع بدء ادارة الرئيس الامريكي ترامب سياسة تشديد العقوبات، وميل اليمين الاسرائيلي وحليفه الامريكي إلى توجيه ضربة للمشروع النووي الايراني بدعوى استثمار ضعف ايران الحالي، وانكشاف امكاناتها الدفاعية، لقد حصل مؤثر جديد تمثل بزيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى طهران يوم 25 شباط المنتهي، تبعها لغط الشديد، عبرت عنه افتتاحية صحيفة جمهوري اسلامي، المعروفة بوسطيتها ورصانتها، مقارنة بصحف الاصوليين والاصلاحيين، المؤثر الجديد هذا كشف صعوبة الطريق الذي تسير فيه الجمهورية الاسلامية، فالصحيفة انتقدت وزارة الخارجية ووزيرها عباس عراقچي وطالبته بالتحدث عن حقيقة اهداف الزيارة، وليس ما أُعلن بشكل رسمي، فالمهتمون يرون أن روسيا التي وقعت مع ايران قبل اسابيع قليلة اتفاقية تعاون استراتيجي، صارت مستعدة للتنصل من الثيمة الأهم في هذا الاتفاق، ثمنا لتقاربها مع واشنطن وطمعا باستثمار انعطافة ترامب نحوها ورغبتها في وقف حرب أوكرانيا، ايرانيون كثر يشككون بالتزام روسيا ازاء بلادهم، وبعضهم يعتقد بأن روسيا لديها استعداد لعقد صفقة مع امريكا على حساب التحالف مع طهران، خصوصا بعد المفاوضات الناجحة بين وزيري الخارجية الروسي والامريكي في الرياض، هذا يشير إلى أن سياسة التوجه شرقا لم تجلب لطهران نقاط قوة جديدة، ولم تُحسن أوراقها التفاوضية، وقد سبق لها توقيع اتفاقية استراتيجية مع الصين، ولم تكسب منها كثيرا على الصعيد الاستثماري والاقتصادي. عندما تتضاءل الخيارات وتضعف أدوات القوة، فإن ذلك سيغري الآخرين (امريكا -اسرائيل -اوروبا ) لممارسة المزيد من الضغوط على طهران، وسيحفز ذلك الرأي العام الايراني، ليضغط باتجاه استراتيجية دفاعية وامنية ومواقف جديدة، تضحي بالأوراق الخارجية التي اعتمدت عليها ايران سابقا، لصالح سياسة أمن وطني جديد، تقوم على تقديم تنازلات عبر مفاوضات مباشرة، لكن الايرانيين يدركون أن التفاوض المكشوف تحت سقف ضغوط ترامب القصوى لن يفيدهم في الخروج بصفقة متوازنة، تعود عليهم بمكاسب مقابل ما يتنازلون عنه، المأزق كبير بطبيعة الحال، والصمود الاضطراري سيكون مؤلما، خصوصا وأن العالم بات يتعامل مع ادارة امريكية تمارس فضاضة سياسية ودبلوماسية غير معهودة، وتخرق القانون الدولي والأعراف السياسية بين الدول، مثلما حصل مع الملك الاردني عبدالله، والرئيس الاوكراني زيلينسكي، النتيجة التي استخلصتها ايران بعد عرضها التفاوضي هي صعوبة الانخراط في مفاوضات لا تحقق شروط المرشد الاعلى الثلاثة (العزة، المصلحة، الحكمة )، وأن عامل الوقت يضغط بشدة، كما ان البيئة الاقليمية تشهد متغيرات متسارعة تسهم في تغيير المشهد الجيوسياسي، وهذه المتغيرات ستزيد في أوزان بعض المنافسين الاقليميين، كتركيا التي حصدت مكاسب سريعة في سوريا، والآن ستحصد مكاسب دعوة الزعيم الكردي السجين عبدالله أوجلان لحزب العمال الكردستاني لحل نفسه، والتخلي عن العنف، والذهاب إلى الحل السلمي للمشكلة الكردية، في أطار ديمقراطي تعددي ملتزم بالتنوع، هذا التطور المهم سيعزز من قوة الموقف التركي، وسيدفع انقرة والرئيس أوردغان إلى القول بأن سياسته هي التي دفعت أوجلان لمراجعة تاريخية حاسمة، افضت إلى اصدار بيانه الشهير.

في موازاة المتغير (التركي -الكردي )، تبدو السعودية مهتمة كثيرا بتحقيق جدارة دبلوماسية تؤهلها لقيادة اقليمية، لا سيما أن وزير دفاعها ذهب إلى واشنطن ليؤكد للأمريكيين بأن الرياض مستعدة للوساطة بينهم وبين الايرانيين، وان السعودية لا تريد هجوما اسرائيليا على ايران بتأييد أمريكي لأنه سيضر بأمن المنطقة. الدبلوماسية السعودية الناعمة تكسب المزيد من الثقة سواء في عودتها المؤثرة في سوريا ولبنان، وفي استثمار انحسار المظلة الايرانية عن البلدين، لتعزز الرياض مواقفها بالتأكيد على خيارات (الدولة) ورفض ما عداها، كما تجسد عمليا في البرنامج الحكومي لحكومة رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام التي شطبت مفردة (المقاومة) إلى جانب الجيش في الدفاع عن الاراضي اللبنانية، وهو ما لم يحدث منذ عشرين عاما. هذه المتغيرات الاقليمية إذا ما أضيفت إلى العلاقة المتوترة بين أوربا وادارة ترامب، وتزايد شعبية اليمين القومي المتطرف في بلدان عديدة (المانيا مثالا جديدا)، تنبئ بأجمعها، أن العالم يشهد منعطفات حادة، بعضها متوقع وأكثرها داهم وغير متوقع، محصلتها تدفع نحو اختلال نظام العلاقات الدولية وازدراء الاعراف والقوانين والمعاهدات، التي تقوم عليها، وكلها تزيد من سرعة تغيير هذا النظام الدولي دون أن تتضح ملامح البديل المرتقب، أي أن الازمات الدولية ستتحرك يمينا وشمالا، مبتعدة عن الناظم التقليدي لها، وستكون عرضة لمزاج اليمين المتطرف واعرافه واخلاقياته التي تزدري القيم الانسانية وتعلي من شأن القوة والتنمر والمصالح القومية.  البلدان العربية والاسلامية التي تواجه مشكلات داخلية وخارجية، ستحسب كثيرا لمتغيرات النظام الدولي، اذ لا يمكنها الاعتماد على صداقات وتحالفات لا تبدو مضمونة ما لم يعد امضاءها الرئيس الامريكي وفقا لمنهجه، وهو منهج يبدو عابثا بهذا النظام الدولي ومعيدا لرسم خرائطه، عالمنا يتغير بسرعة، اسرع مما كان متوقعا، ومن يريد تجنب العواصف مضطر إلى السير بحذر وألّا يبدو منزوع السلاح، واقوى هذه الاسلحة هو القوة الداخلية، الاقتصاد القوي والامن الراسخ والدبلوماسية 

الذكية.