عتيق الله

منصة 2025/03/03
...

جواد علي كسار


هذا الصحابي الأنصاري معاذ بن جبل الخزرجي يدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله باكياً؛ فسأله النبي: ما يُبكيك يا معاذ؟ أجاب: يا رسول الله، إن بالباب شاباً طري الجسد، نقي اللون، حسن الصورة، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها، يريد الدخول عليك. قال النبي: أدخل عليّ الشابّ يا معاذ.

عندما أصبح الشاب في حضرة النبي، سأله: ما يُبكيك يا شاب؟ أجاب: وكيف لا أبكي وقد ركبتُ ذنوباً إن أخذني الله عز وجل ببعضها، أدخلني نار جهنّم، ولا أراني إلا سيأخذني بها ولا يغفرها لي أبداً.

عندها اتجه نبي الرحمة تلقاء الشاب، مستفهماً: هل أشركت بالله شيئاً؟ أجاب الشاب من فوره: أعوذ بالله أن أُشرك بربي شيئاً. سأله النبي: أقتلت النفس التي حرّم الله؟ أجاب: لا، فقال له النبي: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، قال الشاب: فإنها أعظم... هكذا استمرّت شكوى الشاب من ذنبه في حضرة النبي، والنبي يُهدّئ عليه ويفتح له طريق الاستغفار والعودة إلى الله، حتى قال له صلى الله عليه وآله: ويحك يا شاب، ذنوبك أعظم من ربك؟ فخرّ الشابّ على وجهه، وهو يقول: سبحان الله ربي، ما من شيء أعظم من ربي.

ثمّ هدأ الشاب بعض الشيء، فسأله النبي: ويحك يا شاب، ألا أخبرتني بذنبٍ واحدٍ من ذنوبك؟ فقصّ عليه الشاب، قوله: بلى أُخبرك. إني كنتُ أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من الأنصار، فلما انصرف عنها أهلها أتيتُ قبرها، ونزعتُ ما كان عليها من أكفانها وتركتها مجرّدة، ومضيتُ منصرفاً فأقبل الشيطان يُزيّنها لي: أما ترى بطنها وبياضها، فلم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها، فإذا أنا بصوت: يا شابّ ويلك من ديان يوم الدين، يقفني وإياك كما تركتني عريانة.. أقوم جنبة إلى يوم حسابي!

عندما سمع النبي ذلك، قال للشاب: تنحّ عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك.

بعد هذه الواقعة اختار الشابّ مكاناً خالياً في أطراف المدينة، نادماً تائباً متعبّداً أسفاً. وانقطع عن الناس يناجي ربه ويستغفر ذنبه، فلم يزل كذلك أربعين يوماً وليلة، فأنزل الله سبحانه في عذر هذا الشاب والمغفرة له، قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 135).

ثمّ خاطب الله نبيّه، بقوله: أتاك عبدي يا محمد تائباً فطردته، فأين يذهب وإلى من يقصد؟ ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري؟ .

بعد نزول الآية على النبي خرج وهو يتلوها ويتبسّم، وقد سأل أصحابه: من يدلني على ذلك الشابّ؟ فقال معاذ: يا رسول الله، بلغنا أنه في موضع كذا. فمضى النبي معه ثلة من أصحابه الكرام، حاملاً له البشارة العظمى جزاء استغفاره وتوبته الصادقة النصوح وأوبته إلى ربّه.

دنا منه الرسول، فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال له: يا بهلول أبشر، فإنك عتيق الله من النار. ثمّ قال لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب.. ثمّ تلا على الشابّ ما أنزل الله فيه وبشره بالجنة.