لن تراني

منصة 2025/03/04
...

جواد علي كسار

من بين (37) حاكماً تسنّموا السلطة في الدولة العباسية على مدار أكثر من خمسة قرون (132ـ 656هـ) لا ريب أن عبد الله بن الرشيد الملقب بالمأمون (170ـ 218هـ) يُعدّ في طليعة هؤلاء الحاكمين في العلم والمعرفة والفهم والإدراك.

تبرز من بين ذلك مجالسه العلمية وقدراته المتميّزة في إدارة المحاورات، بصرف النظر عن الدوافع السياسية. من بين مجالسه واحد حضر فيه الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، فالتفت المأمون إلى الإمام، قائلاً: يا ابن رسول الله، أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ ردّ الإمام: بلى. فكان مما سأله عنه بعض الآيات التي يوحي ظاهرها بخلاف العصمة، ومنها قوله سبحانه: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾ (الأعراف: 143) وكيف يجوز أن يكون كليم الله موسى لا يعلم أن الله تعالى ذكره، لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟ .

أوضح الإمام الرضا الأمر، بقوله: «إن كليم الله موسى بن عمران، علِمَ أن الله منزّه عن أن يُرى بالأبصار. ولكنه لما كلمه الله عز وجل وقرّبه نجياً، رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجلّ كلمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت». ثمّ بيّن الإمام للمأمون وحضّار المجلس، عدد بني إسرائيل وأن موسى اصطفى منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه، فأقامهم على سفح الجبل.

صعد موسى إلى الطور وسأل الله تعالى أن يكلمه ويُسمعهم كلامه، فكلمه الله وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن الله أحدثه في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه. مع ذلك قالوا لموسى: لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله، حتى نرى الله جهرة! .

بعد هذا العتو أصابتهم صاعقة بعثها الله فماتوا بظلمهم. فقال موسى: يا ربّ، ما أقول لبني إسرائيل إذ رجعتُ إليهم، وقالوا: أنك ذهبت بهم فقتلتهم، فأحياهم الله وبعثهم معه. 

لم تنتهِ المسألة عند هذا الحدّ حين أصرّ القوم على الرؤية، ولم ينفع معهم قول نبيّهم: يا قوم، أن الله لا يُرى بالأبصار، ولا كيفية له، وإنما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه.

أمام إصرارهم أوحى الله إلى موسى: يا موسى، اسألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعندئذ قال موسى: ﴿رَبِّ أَرِنِي أنظُرْ إِلَيْكَ﴾ ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ أنظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾. فلما تجلى سبحانه إلى الجبل بآيةٍ من آياته، وجعله دكاً وهو يهوي: ﴿خَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾.

يقول الإمام الرضا في إيضاح توبة موسى، أي: «رجعتُ إلى معرفتي بك عن جهل قومي ﴿وَأَنَا أولُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ منهم، بأنك لا تُرى"، فقال المأمون مخاطباً الإمام الرضا: "لله درّك يا أبا الحسن" .