علي حسن الفواز
لم تعد الحرب الباردة «حربا فاضلة»، ولم يجد العقل الرأسمالي الأميركي جدوى من استمرارها، ومن متاهة خنادقها المفتوحة لأكثر من نصف قرن، فجعلت من العالم محكوما بمركزيات أيديولوجية، وبأسواق تبيع الأسلحة أكثر من التوابل وحقائب السفر.
ما حدث في المشادة الكلامية بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والأوكراني زيلينسكي يؤكد العزم الأميركي على إنهاء ما هو وظيفي وأيديولوجي في تلك الحرب، وأن الولايات المتحدة ستبحث عن حروب أخرى، أشد مرونة، وأسهل تطبيقا، يُعاد من خلالها النظر بمفاهيم الصداقة والعداوة، والحب والكراهية، وعلى نحوٍ قد يجعل من الرئيس الروسي فلاديمر بوتين صديقا للرئيس ترامب، وشريكا في صياغة أفكار جديدة حول الأسواق والتجارة والجغرافيا والأسلحة النووية والألعاب الرياضية.
الموقف العلني الحاد للرئيس ترامب في حديثه مع زيلينسكي يكشف عن نوايا مسبقة، وعن تخطيط مسبق، ولعل نقل تفاصيل تلك المشادة عبر وسائل الإعلام يؤكد هذا الخيار الرئاسي، مثلما يحمل معه رسائل للحلفاء في الاتحاد الأوروبي، تتضمن صياغة الإشارة إلى عهد جديد، وسياسات تجعل المصالح أهم من الأدلجات، ومن حسابات المستقبل أهم من حسابات التاريخ، برغم أن الأوروبيين يخشون من تمدد المركزية الروسية، ومن الغموض في شخصية الرئيس الروسي بوتين، وهو ما يتقاطع مع كشوفات الرئيس ترامب، وسياسته الجديدة في التعاطي مع مفهوم إدارة العالم، وتداول العولمة الرقمية، والسيطرة الرقمية، ورغبة روسيا في الدخول بتحالف مع الولايات المتحدة، وليس مع الأوروبيين، لأن الولايات المتحدة تملك القدرة على صياغتها، وعلى تأمين ضماناتها، في الوقت الذي تكون فيه أوروبا عاجرة، وأحلافها العسكرية، واتحاداتها السياسية، لا تكفي لحمايتها من الأزمات الكبرى، الاقتصادية والأمنية والمناخية والانثربولوجية.
الاحتدام بين الرئيسين يكشف “أيضا” عن فشل دبلوماسي، وعن تقاطع في وجهات النظر حول الحرب، وحول تحمّل مسؤولية تداعياتها، وأعبائها الاقتصادية والديموغرافية، وخطورة استمرار الدعم المفتوح لأوكرانيا من دون تحقيق نتائج ملموسة في الميدان، وفي تغيير معادلات التوازن العسكري، لا سيما أن الرئيس ترامب تحدث علنا عن عدم قدرة أوكرانيا على “تحقيق النصر” وأن الإنفاق الكبير الذي دفعته حكومة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن لم يجد نفعا، وفائدة في تحويل الرئيس الأوكراني إلى بطل قومي. وحتى إلغاء المؤتمر الصحفي بين الرئيسين، والطلب من زلينسكي المغادرة، يعكسان مدى الخلاف الكبير في وجهات نظر معالجة الأزمة الأوكرانية، وهو ما سيجعل من دول أوروبا أكثر حراجة وقلقا، لأن مسألة إعطاء الضمانات الأمنية ستكون محفوفة بأخطار ستراتيجية، وبتقاطعات جديدة مع السياسة الأميركية في أوروبا، وفي مناطق أخرى.