بغداد تحت ضغط الباحثين عن فرص العمل

بغداد : سرور العلي
تدفع البطالة أعدادا كبيرة من أبناء المحافظات إلى البحث عن فرص عمل في بغداد، حيث يشكلون نسبة كبيرة من القوى العاملة في مختلف القطاعات. ورغم أن هذه الظاهرة تسهم في تحسين الظروف المعيشية للكثيرين، إلا أنها تفرض تحديات اجتماعية وخدمية على العاصمة، إلى جانب الضغط المتزايد على الموارد والبنى التحتية.
ويؤكد مختصون ضرورة إيجاد حلول دائمة، مثل خلق فرص عمل داخل المحافظات، ودعم المشاريع الاستثمارية والتنموية، للحد من الهجرة الداخلية وتقليل آثارها السلبية على بغداد وبقية المدن.
في جولة ميدانية لفريق "الصباح" بين العمالة الوافدة في بغداد، التقى الفريق بعدد من العمال الذين كشفوا عن معاناتهم وأحلامهم في تحسين ظروفهم المعيشية. حسين محمد، البالغ من العمر 28 عاماً، جاء من محافظة المثنى، وهي من أفقر المحافظات في العراق، ليبحث عن فرصة لتحسين وضعه المالي بعد أن ضاقت فرص العمل في مدينته. يقول حسين: "البطالة تنتشر في مدينتي، لذلك قررت الانتقال إلى بغداد منذ عامين للعمل في أحد الأفران". وفي السياق نفسه، تحدث أحمد جاسم، البالغ من العمر 33 عاماً، عن تدهور الوضع الاقتصادي في الديوانية، ما دفعه للبحث عن رزقه كعامل بناء في بغداد، حيث يقف يومياً في "مسطر" العمال لعله يجد فرصة. أما علي كريم، سائق الأجرة القادم من بابل، فقد وجد نفسه مجبراً على العمل في مهنته الحالية لتوفير لقمة العيش لأسرته، بعدما فشلت محاولاته للحصول على وظيفة مستقرة. وأكد جميعهم ضرورة أن تولي الحكومة اهتماماً أكبر بتوفير فرص العمل المناسبة لأبناء المحافظات، عبر افتتاح المشاريع الصغيرة وتقديم الدعم، لتخفيف الاعتماد على العمالة الوافدة وتحسين مستوى الحياة في مدنهم.
أسباب
الخبير الاقتصادي الدكتور ستار البياتي، أوضح في حديثه لـ"الصباح" أن هناك العديد من الأسباب التي تدفع أبناء المحافظات إلى الانتقال للعمل في بغداد، أبرزها الأزمات الاقتصادية التي تشهدها مناطقهم. إذ يجد العديد منهم أنفسهم مضطرين للبحث عن فرص عمل في العاصمة، خاصة مع حركة البناء والإعمار المستمرة فيها ووجود مراكز النشاط الاقتصادي الرئيسة. كما أشار البياتي إلى تراجع النشاط الزراعي بعد عام 2003، نتيجة لزيادة الاستيراد، ما دفع العديد من أبناء الأرياف إلى مغادرة مدنهم بحثاً عن مصدر رزق في بغداد.
وأشار البياتي إلى أن هذه الظاهرة لها تأثيرات سلبية، خاصة من حيث الضغط الكبير على الخدمات والبنى التحتية في العاصمة، حيث يعاني سكان بغداد من الزحام الشديد. إلا أنه لا يخفي أن هذه الظاهرة تحمل أيضاً بعض الإيجابيات، مثل توفير فرص العمل للعمال الوافدين، الذين يجدون في العاصمة مصدراً للكسب. وتساءل: "ما هو البديل لهم؟"، في إشارة إلى أن بغداد تظل الخيار الوحيد للكثير منهم، إضافة إلى أنها تساعد في سد النقص في بعض المهن التي يرفض أبناء العاصمة العمل فيها.
إحصائية
وفي آخر إحصائية لوزارة التخطيط، واستناداً إلى نتائج التعداد السكاني لسنة 2024، بلغ معدل البطالة للبالغين في الفئة العمرية (15 سنة فأكثر) 13.5%. كما أظهرت الإحصائيات أن معدل السكان النشطين اقتصادياً في الفئة العمرية نفسها بلغ 38.1%.
إجراءات
أكد المتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، نجم العقابي، أن الوزارة تتخذ إجراءات عدة للحد من البطالة، تشمل تشريع عدد من القوانين لدعم القطاع الخاص وتقليص نسبة البطالة بين الشباب. وأوضح في حديثه لـ"الصباح" أن من أبرز هذه الإجراءات هو قانون تقاعد الضمان الاجتماعي للأعمار بين 18 و23 سنة للقطاع العامل، والذي يستهدف دعم العمالة الوطنية. وأضاف أن الوزارة تقدم قروضاً صغيرة تتراوح بين 20 و50 مليون دينار، حيث يُشترط أن يحصل الباحث عن العمل على قرض بقيمة 20 مليون دينار إذا كان يعمل مع أحد الباحثين عن العمل، وأن تتزايد القروض لتشمل أكثر من باحث عن عمل وفقاً للقيمة المطلوبة.
وأشار العقابي إلى تفعيل قانون العمل رقم 37 لسنة 2015، الذي ينص على تشغيل 50% من العمالة الوطنية مقابل 50% من العمالة الأجنبية في الشركات الاستثمارية المتعاقدة مع الدولة، بهدف دعم الشباب وتقليل معدلات البطالة.
وأضاف العقابي أن الوزارة تتعاون بشكل كبير مع مختلف وزارات الدولة، حيث قامت بنقل حوالي 3722 من أرباب الأسر الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة للعمل في وزارة الداخلية، ما يساعد في تخفيف الضغط على ملف الحماية الاجتماعية. وأوضح أن الوزارة تعمل على توجيه الدعم إلى الأسر الأكثر هشاشة مثل كبار السن وذوي الإعاقة والأيتام، مشيراً إلى أن الوزارة اليوم تدعم حوالي مليونين و175 ألف أسرة.
كما نوه المتحدث إلى التعاون المستمر مع وزارات أخرى مثل وزارة العدل، حيث سيتم تحويل 5000 شخص من الأعمار بين 25 و30 سنة للعمل في القطاع الحكومي، مشدداً على أهمية توعية المواطنين ومنظمات المجتمع المدني والشركاء الاجتماعيين بدعم هذه الفئات من أجل تخفيض نسبة البطالة في العراق.
الدكتور مظهر محمد صالح، مستشار رئيس الوزراء المالي، بين في حديثه لـ"الصباح"، "تفاقمت تلك الظاهرة نتيجة للتنمية الاقتصادية التي تشهدها بغداد، إلا أن ذلك يسبب مشكلات كبيرة، لا سيما أن العاصمة تضم 9 ملايين إنسان، وقرابة 2 مليون يعيشون في العشوائيات، وتزدحم بمرور السنوات للبحث عن فرص عيش أفضل، وهذا يشير إلى عدم وجود توازن في التنمية بين بغداد والمحافظات". مؤكدًا: "ولا تتم معالجة تلك الظاهرة إلا بتنمية المحافظات، والنهوض باقتصادها وأعبائها، وتحقيق الاستقرار السكاني، وإيجاد مصدات لخفض نسبة العمالة الوافدة، التي ليست وليدة اليوم، بل ظهرت مع تدني المستوى الاقتصادي لبعض المحافظات، وانتشار البطالة فيها".
نصت المادة 44 من الدستور العراقي على حق المواطن في التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه، وهو حق يكفله الدستور لأغراض اقتصادية أو ثقافية أو وظيفية، ويهدف إلى تعزيز الوحدة المجتمعية. وفي هذا السياق، أشار الدكتور مسعد الراجحي، المتخصص في الدبلوماسية والاستراتيجية الدولية، إلى أن انتقال المواطن العراقي بين المحافظات قد يواجه بعض التحديات، إذا كانت تلك المحافظات تفتقر إلى بنية تحتية مناسبة، أو تعاني من العشوائيات وغياب الرؤية التطويرية الواضحة. كما أضاف أن الحكومات السابقة لم تتمكن من استحداث مشاريع تنموية استراتيجية كالمشاريع الصناعية المتوسطة والبعيدة المدى، ما أثر سلباً في فرص العمل والخدمات المقدمة للمواطنين.
وفي حديثه لـ"الصباح"، عبّر الراجحي عن استغرابه من وصف المواطنين الذين ينتقلون بين المحافظات بـ "الوافدين". ولفت إلى أن هذا الوضع يعكس التأخر في بناء نظم مؤسساتية حديثة، ما جعل التنقل بين المحافظات يُنظر إليه كإشكالية اجتماعية، في حين أنه حق طبيعي للمواطن.
كما أشار إلى أن هذه التحديات تبرز ضعف الحوكمة في العراق مقارنة بالدول المتقدمة، ونتيجة لذلك، تشكلت ملامح شخصية اجتماعية مرتبطة بالظروف السياسية والاقتصادية التي مر بها البلد.