محمد غازي الأخرس
هكذا أنا، كلما ضاقت نفسي من زحام بغداد، لذت بالأغاني الموجودة في هاتفي، ومن بينها رائعة ناصر حكيم، التي غناها حسين نعمة مع موال من طور الصبي الشجي، نخل السماوة يكول طرتني سمره. نعم، كلما خنقني الزحام طرت مع نخل السماوة الذي هو نخل السماوات كما يبتدئ سعدي يوسف إحدى قصائده. والنخلة هي النخلة، مقدسة العراقيين والعرب وسيدة أشجارهم. كل ما فيها نافع، من تمرها إلى سعفها، ومن جذعها إلى جمارها. أما التمر فأطيبه البرحي والبربن، والتبرزل، الذي استعار مظفر النواب طعمه للقبلة فقال: ما بين شهكة ونفس، ليلتنه.. هودج عرس، تاخذنه حضنه.. ونِرِد، الشفاف تنكَط دبس، زقني..بلذيذ النِفَس، كَطع النفس للشمس، واميتك لذتي.. وفوك التبرزل طعم. مقطع رائع هو مجرد عينة من خزانة لا تنفد من الاستعارات والتشبيهات، التي اتخذت من النخلة موضوعا لها، ويستغرق الأمر المتخيل كله، الشعر والمثل والكناية والمجاز.
هم يقولون في الدارمي بتورية رائعة عن معنى يتجاوز النخلة: عيطه ورطبنه عليج ومحد ينوشج، جانه الخبر صعدوج وفرهدوا طوشچ، والعيطة هي النخلة الباسقة، ولئن كانت أنواع التمر بأرض السواد تتوزع بين الزهدي والحلاوي والمكتوم و البريم والشويشي والخستاوي والخضراوي والحمراوي وغيره، فإن قدامى العرب عرفوا التمر بأنواعه، كالصفري سيد التمور، والسري والفحاحيل والمجتني والحباوي والشماريخ والصفران وغير ذلك. وكانوا إذا ما أرادوا إيقاع أذى نفسي جسيم في نفوس أعدائهم قاموا بحرق نخيلهم، وتركه جثثا سوداء، وشبه الشعراء هذا النخيل المحترق بنساء قائمات في مأتم وقد لبسن السواد. يقول الأعشى مفاخراً: وأيام حجر إذ يحرق نخله.. ثأرناكم يوماً بتحريق أرقم.. كأن نخيل الشط غبّ حريقه.. مآتم سود سلبت عند مأتم.. يا للتشبيه يا رجل! هذا ما عنّ لي وأنا أحلق مع (نخل السماوة)، فتأمل أسعدك الله.