وعلى الثلاثة

منصة 2025/03/09
...

جواد علي كسار 

جاءت غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة مؤشراً مفصلياً حاسماً، على بسط النبي صلى الله عليه وآله لدعوته على الجزيرة العربية. فقد حشد النبي لهذه الغزوة التي اتجه فيها لمواجهة مباشرة مع هرقل في الشام؛ ما لا يقلّ عن ثلاثين ألفاً، وفي بعض التواريخ ما يزيد على ذلك كثيراً، إلى سبعين ألفاً!

في الرؤية النبوية أن مملكة فارس الساسانية كانت في طورها إلى التفكّك، وهي عمّا قريب ستقع بيد المسلمين. والحبشة في حياد إيجابي يشبه الانحياز إلى الدعوة الجديدة، إنما المشكلة في مملكة الروم، خاصةً بعد أن استيقن النبي من أخبار بلغته عن نية هرقل التحرّك بجيش صوب المدينة المنوّرة بقيادته شخصياً، لإسقاط الدعوة الجديدة.

من هنا أهمية التعبئة العامة التي أعلنها النبي لحشد أكبر عدد لجيش يخرج من الجزيرة لمواجهة الروم، وكذلك السرّ من وراء تشدّده ضدّ المتخلفين عن جيش العُسرة بحسب الوصف القرآني، بعد أن أمره الوحي أن يكون هو بنفسه على رأس هذا الجيش المهيب، وأن يخرج به إلى تبوك وهي تبعد عن المدينة (700) كم.

يُجمع المؤرخون معهم مدوّنات التفسير وكتبه، أن مجاميع تخلفت عن النبي؛ هي خليط من ذوي الأعذار الشرعية، ومن المنافقين المرجفين والمرعوبين، وآخرين تخلفوا كسلاً ودعة من دون نفاق، كان من بينهم ثلاثة نفر هم كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.

سأترك لأحدهم يُحدّثنا عن سبب تخلفهم، وأنه لم يكن لنفاق أو موقف ضدّ الدعوة ونبيها، بل هو مجرّد تقاعس، إذ يقول كعب: ما كنتُ قطّ أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله إلى تبوك، وما اجتمعت لي راحلتان قطّ إلا في ذلك اليوم، وكنت أقول: أخرج غداً، أخرج بعد غد، فإني قوي وتوانيت، وبقيت بعد خروج النبي أياماً أدخل السوق، فلا أقضي حاجة!

هكذا مرّت الأيام بالتسويف والتواني حتى عاد رسول الله. نقرأ: فلما وافى رسول الله، استقبلناه نهنأه بالسلامة، فسلّمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا. وسلّمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام. فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، وكنا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلمنا، فجئن نساؤنا إلى رسول الله، فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا فنعتزلهم؟ فقال النبي: لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن! .

إنها إذن العزلة الكاملة والمقاطعة الاجتماعية الشاملة من النبي وأصحابه، وداخل الأسرة والمجتمع، وفي المسجد والأسواق؛ فماذا هُم فاعلون؟ يذكر كعب أنهم قرّروا أن يتركوا المدينة إلى أطرافها، يتعبدون ويتوبون بانتظار كلمة السماء في مصيرهم؛ وهذا ما كان.

مضوا إلى جبل اسمه |"ذناب" فكانوا يصومون ويتعبدون، ويبكون بالليل والنهار، يوافهم أهلهم بالطعام يضعونه لهم، ثمّ يولون عنهم دون أن يكلمونهم. لما طال عليهم ذلك، قال كعب لصاحبيه: يا قوم، قد سخط الله علينا، فلا يكلمنا أحد؛ فلِمَ لا نسخط بعضنا على بعض؟! هكذا تفرقوا ليلاً وحلفوا أن لا يكلم أحداً منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه! .

بقوا على هذه الحال ثلاثة أيام، فلما كان في الليلة الثالثة ورسول الله في بيت أم سلمة، نزلت توبتهم وتحوّلت قصتهم إلى درس وعبرة، وإلى قرآن يُقرأ من وقتهم ذاك، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (التوبة: 118).